طالعت على موقع "الأخبار إنفو" وصفحات بعض المدونين على الفيس بوك، خبرا عن بحث الأمن الموريتاني عن مسلحين قادمين من جمهورية مالي، يعتقد أنهم تسللوا إلى الأراضي الموريتانية قادمين من معاقل تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي هناك.
ولأن خبرا بهذا الحجم والخطورة ينشر بالتفصيل مع عدد وجنسيات المسلحين المعنيين، وفي هذه الظرفية الخاصة من تاريخ البلد، عشية رحيل الرئيس السابق واستلام خلفه للسلطة، وبعد مرور قرابة ثماني سنوات على آخر تسلل لعناصر القاعدة إلى الأراضي الموريتانية (حادثة اختطاف الدركي اعل ولد المختار من عدل بكرو في دجمبر 2011)، فقد كان مدعاة للتوقف عنده، تعليقا وتحليلا، وإن كان نفيه نفيا قاطعا يتطلب معلومات قطعية من الجهة التي قيل إنها تبحث عن المتسللين المفترضين، إلا أن تأكيده والنظر إليه بجدية الخبر اليقين، تعترضهما جملة معطيات، وبعض المؤشرات التي تحيط بالمعلومات الواردة في هذا الخبر، تجعل القارئ الملم ـ ولو بيسير المعرفة ـ بظروف تلك الجماعات في شمال مالي وتداعيات الحرب عليها، وبعض تفاصيل تاريخ المواجهة بينها وبين موريتانيا، لا يجد مندوحة من إثارة بعض الأسئلة التي قد تقود إلى تقييم تلك المعلومات أو تحديد مدى وضوح الزاوية التي سيقرأها منها.
وفي مقدمة هذه الأسئلة: ما ذا استجد على الحدود الشرقية لبلدنا حتى عادت القاعدة للنشاط على الأراضي الموريتانية، ولماذا توقفت أصلا تلك النشاطات منذ نهاية عام 2011، ومن المسؤول هنا في موريتانيا عن تلك الحالة الهادئة التي تعيشها العلاقة بين الطرفين.
لقد سال حبر كثير في السنوات الماضية حول إشكالية العلاقة بين موريتانيا وتنظيم القاعدة، وتباينت الآراء والمعلومات المبثوثة بهذا الشأن، بين من يعتقد وجود اتفاق مكتوب بين القاعدة وموريتانيا، ومن هؤلاء محللون وكتاب موريتانيون وأجانب، وبين من يُرجع تلك الحالة إلى تطورات حصلت على مستوى المنظومة الأمنية والدفاعية الموريتانية، ومن هؤلاء أنصار النظام الموريتاني وبعض الكتاب والمحللين، وهي جدلية كان لي رأي فيها ساعة إثارتها وليس المقام مقام بسطها، لكن ما يهمنا اليوم هو المستجد على مستوى العلاقة بين الطرفين، والذي أدى إلى إرسال تنظيم القاعدة عناصر منه إلى داخل الأراضي الموريتانية ، كما ورد في الخبر.
فعلى مستوى الوضع الميداني لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وهي فرع الصحراء من تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، لا جديد سوى مزيد من الظروف الضاغطة واغتيال بعض قادة الصف الأول من أمثال أمير الصحراء يحيى أبو الهمام وغيره، مما أدى إلى تراجع حجم العمليات داخل مالي، وهو ما يجعل سياسة التنظيم القائمة على تحييد موريتانيا وإبقاءها خارج المعركة، أمرا أكثر لزوما اليوم مما كان عليه سابقا، وآخر تصريح صادر عن التنظيم في هذا السياق ما قاله "أبو عبيدة العنابي" رئيس مجلس أعيان تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الاسلامي في مقابلة أجراها مع الصحفي في قناة فرانس 24 "وسيم نصر"، (نشرت نهاية شهر مايو الماضي) حين سأله عن إمكانية انتهاء حالة استثناء موريتانيا من الاستهداف بعمليات التنظيم، رد قائلا: "كل من كان باذلا الحياد أيا كان مسماه فلا تغير في موقفنا منه ما دام كذلك"، هذا الحياد على حد تعبير رئيس مجلس أعيان التنظيم، أو الهدنة على حد تعبير بعض الكتاب الغربيين، مبرراته وأسبابه ما تزال قائمة، فالتنظيم كان قد قرر وأعلنها أكثر من مرة على لسان قادته أن استهدافه سينحصر في الدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده على الأراضي المالية، ومن نافل القول التذكير بأن موريتانيا لا وجود لقوات تابعة لها على الأراضي المالية، بل حين أُعلن عن تأسيس قوة دول الساحل الخمس (G5) توقع بعض المحللين أن التنظيم قد يرى في مشاركة موريتانيا في تلك القوة إعلان حرب ويستأنف أنشطته العدائية ضدها، لكن قادة التنظيم تمسكوا بموقفهم الرافض لاستهداف موريتانيا معلنين أن العمل الميداني للقوات الموريتانية هو الذي سيحدد الموقف منها، وحين أعلن عن تعيين الجنرال حننا ولد سيدي (وزير الدفاع الحالي) على رأس قوة الساحل في مالي توقع آخرون أن يقرأ التنظيم في ذلك التعيين حالة متقدمة من العداء والمشاركة في الحرب ضده، لكن قادة التنظيم كانوا واضحين في موقهم، فلا جديد ما لم تدخل قوات موريتانية إلى الأراضي المالية وتشارك في الحرب والمواجهة، أما اليوم فلا جديد سوى انتهاء مهام القائد الموريتاني لقوة G5 وعودته الى بلده، وهي خطوة تنزع من الفتيل أكثر مما تقرب من الحرب.
ثم إن مواقف أمير جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، ومن ورائه الأمير العام للقاعدة ببلاد المغرب الإسلامي أبو مصعب عبد الودود، من موريتانيا، ما تزال كما هي، فكلاهما يرفض استهداف موريتانيا أو العمل على أراضيها ولو ضد المصالح الغربية، بل إن إياد أغ غالي حين أسس جماعة "أنصار الدين" في شمال مالي أواخر عام 2011، وشرع في التحالف من إمارة الصحراء التابعة لتنظيم القاعدة كان أول طلب تقدم به لقادتهم، واشترطه للتحالف معهم هو وقف استهداف موريتانيا وعدم تنفيذ عمليات داخل أراضيها انطلاقا من مالي، وهو ما تزامن ساعتها من وقف كل العمليات على الأراضي الموريتانية، فإياد أغ غالي اليوم هو الآمر الناهي في شمال مالي، وتخضع لسلطانه تنظيمات أنصار الدين والمرابطون وإمارة الصحراء وكتائب ماسينا، أما دوركدال فهو من الذين يرون ضرورة التركيز على العدو الفرنسي والجيوش التي تقاتل معه، ويرفض رفضا باتا فتح أي جبهة جديدة خصوصا مع موريتانيا، هذا فضلا عن أن بعض قادة التنظيم صرحوا أكثر من مرة واعترفوا بأن عملياتهم ضد موريتانيا كانت خطأ استراتيجيا وفتحا لجبهة كانوا سيأمنون جانبها لو تركوها جانبا.
أما ربط الأمر بتغير رأس النظام في موريتانيا ومغادرة محمد ولد عبد العزيز للسلطة ، فإن الأمر ليس بهذه البساطة السطحية، فمهما كان السبب وراء وقف القتال والأعمال العدائية بين موريتانيا والقاعدة، فإن الرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني يعتبر أبرز الفعالين فيه، فإن كانت هدنة كما يعتقد البعض فهو قائد أركان الجيوش خلال تلك الفترة، وهو من يحارب ومن يهادن، وإن كان للأمر علاقة بتطوير الاستراتيجية الدفاعية والأمنية لموريتانيا كما يقول آخرون، فالرجل كان على رأس المؤسسة الدفاعية في البلد، وقبلها كان مديرا للأمن، ومغادرة ولد عبد العزيز للسلطة لا تعني بالضرورة انهيار تلك المنظومة او تراجعها بشكل تلقائي.
وانطلاقا مما سبق وتأسيسا على عوامل ومؤشرات أخرى يضيق المقام عنها، فإنه يمكن القول إن إرسال تنظيم القاعدة لمسلحين من عناصره إلى الأراضي الموريتانية لتنفيذ عمليات داخلها أمر غير وارد بل مستبعد جدا.
لكن يبقى احتمال آخر قد يكون واردا إن صح دخول هؤلاء العناصر إلى الأراضي الموريتانية، وهو احتمال لا يدعو إلى القلق أو الاستنفار، إذ قد يعتلق الأمر بعناصر من التنظيم قرروا مغادرته والانسحاب منه، ويبحثون عن طريق للعودة من حيث أتوا، وفي هذه الحالة فإنه لا يخشى من أي تصرف يصدر عن هؤلاء في الحالات الطبيعية، لأنهم مجرد باحثين عن مأوى مؤقت في طريقهم لمغادرة المنطقة، وسيكون دخولهم إلى الأراضي الموريتانية ـ إن صح الخبرـ بمبادرة منهم، وليس بتوجيهات من التنظيم الذي يفترض أنهم غادروه بعد فك الارتباط معه وقطع الصلة به.
الكاتب الموريتاني محمد محمود أبو المعالي