بقلم عمر مصطفى
OUMAR MUSTAFA
شكل قرار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، تحويل كنيسة آيا صوفيا من متحف إلى مسجد، بداية يوليو الجاري، حدثا بارزا، من حيث تداعياته داخل تركيا وخارجها. ذلك أن هذا توقيت القرار وطبيعته تحمل الكثير من الدلالات السلبية على الأمة التركية وعلى مسلمي العالم، حتى ولو صورتها الآلة الإعلامية لنظام أردوغان عكس ذلك.
خلال عدة قرون، ظلت هذه الكنيسة، منذ سقوط القسطنطينية (اسطنبول حاليا) على يد محمد الفاتح عام 1453، رمزا للتسامح الديني وتعايش الثقافات قبول الآخر، حيث لم يتمكن السلاطين المتعاقبين للدولة العثمانية من طمس هويتها الدينية، رغم تحويلهم إياها إلى مسجد. بل ظلت رمزا لاستمرار وشائج الترابط بين سكان الامبراطوية من مسلمين ومسيحيين.
ورغم الهزات العنيفة التي شهدتها الدولة العثمانية في قرنها الأخير، ووقوفها وراء إبادة الأرمن لأسباب دينية، لم يجرؤ سلاطينها على القضاء على التنوع الديني أو اجتثاث المكون المسيحي للامبراطورية، كما لم يحولوا أيا من دور العبادة المسيحية إلى مساجد.
وقد استطاعت دولة تركيا الحديثة، على يد مؤسسها، مصطفى كمال أتاتورك، أن تستغل هذا الإرث، في التأسيس لعلمانية الدولة وتدشين مرحلة جديدة من الانفتاح على الغرب وتمثل قيمه الاجتماعية، خاصة عندما حولت آيا صوفيا إلى متحف مرة أخرى في ثلاثينيات القرن الماضي. وهو القرار الذي ساهم إلى حد بعيد في ترسيخ ثقافة التعايش بين مكونات المجتمع التركي، وملائمة مصالحه مع دول الغرب المسيحي.
لكن السياسة التي يتبناها رجب طيب أردوغان اليوم، تقوم على إحداث قطيعة شبه كاملة مع ثقافة التسامح التي طبعت حياة أجيال متعاقبة من سكان المنطقة المعروفة جيوسياسيا بآسيا الصغرى، رغم تعدد دياناتهم واختلاف ثقافتهم.
والمتابع اليوم لتوجهات أردوغان لا يمكن أن تخفى عليه الدوافع السياسية والقومية وراء تحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد.
فبعد الهزائم السياسية المتوالية لحزب العدالة والتنمية داخل تركيا، وانسحاب العديد من رموز الحزب، شرع أردوغان في البحث عن وسيلة لاستعادة ألقه من جديد، وبالتالي لم يعد أمامه سوى دغدغة المشاعر الدينية لاستقطاب متعاطفين جدد.
كما يسعى أردوغان من جهة أخرى إلى الحصول على تعاطف الجاليات المسلمة في أوروبا، وذلك بعد أن منعته الدول الأوروبية من ممارسة دعايته السياسية داخلها.
وإزاء كل هذه المعوقات، لم يبق أمام أردوغان سوى التعويل على دعم المتطرفين من مسلمي البلدان الأوروبية، محاولا بذلك استغلال جهلهم بأهدافه السياسية، وعدم إدراكهم لحقيقة الدين الإسلامي وتسامحه تجاه الديانات الأخرى، كما يسعى من جهة أخرى إلى استغلال ظروفهم الاقتصادية الصعبة، ومحاولة إقناعهم بعلاقة وضعهم الاقتصادي بانتمائهم الديني وخلفياتهم العقدية.
إن الخطوات التي يقوم بها الرئيس التركي ستكون لها نتائج عكسية على أوضاع تركيا الداخلية، وصورتها الخارجية، حيث ستكون السياحة في تركيا أول القطاعات المتضررة بذلك.
وقد بدأت بوادر ذلك تلوح في الأيام الأخيرة، من خلال تنديد العالم بتحويل كنيسة أيا صوفيا إلى مسجد.
فقد طالب مجلس الكنائس العالمي -الذي يضم 350 كنيسة ويمثل أكثر من نصف مليار مسيحي- إلى التراجع عن هذا القرار، وأعرب عن شعوره بالحزن وخيبة أمله تجاهه، وأكد أن هذا لقرار يقوض الجهود العالمية لتقريب أتباع الأديان المختلفة من بعضها البعض.
كما استنكرت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الخطط التركية المقترحة، واعتبرت القرار انتهاكا غير مقبول لحرية المعتقد.
لكن المفارقة الأبرز، تكمن في أن خطوة أردوغان بتحويل الكنيسة إلى مسجد، لاتكاد تختلف عن الخطوات التي قامت بها مجموعات متطرفة في العالم، باستهداف أصحاب الديانات في المناطق التي تسيطر عليها.
كما أنه من شأن خطوة أردوغان الأخيرة أن تشجع المجموعات الدينية في جميع مناطق العالم إلى تغيير الأوضاع القائمة في أماكن أخرى من العالم بالقوة، وبالتالي تتصاعد روح الفرقة الدينية بين أتباع الأديان.
وبدلا من أن يلعب قرار أردوغان دورا في حماية مسلمي أوروبا، فإنه سيجعلهم يتعرضون لخطر المجموعات المتطرفة داخل تلك البلدان، مثل النازيون الجدد في ألمانيا، كما سيعطي القرار مبررا قويا للأحزاب اليمينية في الغرب لنشر دعايتهم المعادية للمسلمين، مما يضفي على أقوالهم وتصرفاتهم نوعا من الشرعية السياسية.
.