تعد القارة الأفريقية في الآونة الراهنة من أهم ساحات التنافس العسكري بين العديد من القوى الدولية والإقليمية، بسبب سماتها الجيوسياسية ومقدراتها الاقتصادية والبشرية وأوضاعها الأمنية والسياسية، وقيمتها في التوازنات الدولية، وثقلها التصويتي، وتاريخها الاستعماري، وطبيعة علاقاتها بالقوى الغربية.
وعلى الرغم من أن الحديث ينصرف دائماً إلى التنافس بين القوى الأوروبية والولايات المتحدة من جانب، ومنافستها لإحدى القوى الآسيوية أو روسيا أو دولة من دول أمريكا اللاتينية من جانب آخر، غير أن التحليل الدقيق لطبيعة العلاقات داخل كل معسكر يكشف عن العديد من جوانب التنافس البيني، وهو ما يظهر في التنافس بين إحدى القوى الأوروبية والولايات المتحدة، ووقتها تبرز فرنسا كإحدى أهم القوى الأوروبية التي تحاول منافسة التمدد الأمريكي في العديد من أقاليم القارة، خاصة منطقة الساحل الأفريقي، الذي يضم المنطقة الصحراوية الفاصلة بين شمال وجنوب القارة، وهو التنافس الذي يظهر بشكل واضح في المجال العسكري والأمني.
- الإرهاب والنزاعات.. معضلة أفريقيا تتصدر نقاشات قادتها في القمة الـ32
- مسؤول أمريكي: الإرهاب في أفريقيا يقتضي مواجهة إقليمية
تحاول الولايات المتحدة الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أن تجعل من نفسها الوريث الدولي للنفوذ الاستعماري داخل القارة، باتباع ذات السياسات الاستيعابية، وهو ما نجح إلى حد كبير في الدول الأفريقية الأنجلوفونية، لكنه اصطدم بواقع وطبيعة العلاقات والدور الفرنسي في الدول الأفريقية الفرانكوفونية، حيث تحاول فرنسا من خلالها أن تستعيد مكانتها الدولية، عبر توسعة دائرة علاقاتها السياسية والاقتصادية.
فمع أن فرنسا تحاول تقليص وجودها المادي قامت بإغلاق قاعدتين عسكريتين لها في أفريقيا الوسطى، وقررت إعادة 1800 جندي من قواعد أفريقية خلال العام المقبل، لكن ذلك لم يمنعها من القيام بدور في الأزمات التي ضربت دول القارة، خاصة منطقة الساحل الأفريقي.
ويبدو أن سياسة الولايات المتحدة تحاول أن تتبنى نهجا يحقق أكبر قدر من المصالح بأقل تكلفة مادية وبشرية، من خلال التركيز على بعض الأقاليم حول العالم، وتكثيف العلاقات ببعض الدول والقوى داخل تلك الأقاليم، والاهتمام بقضايا بعينها كالتجارة والإرهاب، ومواجهة التطرف، والجريمة الدولية، ودعم الأمن والاستقرار، والتأثير على العقيدة العسكرية من خلال قيادات موحدة لأقاليم العالم، وهي جميعها تفضي إلى تأمين فرص الاستثمار والتجارة في مناطق بعينها، تنفيذاً لمبدأ جديد في السياسة الخارجية الأمريكية هو "التجارة بدلاً من المساعدات" الذي يؤمن للولايات المتحدة النصيب الأكبر من البترول والثروات الأفريقية.
ويبدو أن الأهمية الجيواستراتيجية، وطبيعة الأوضاع السياسية والأمنية لبعض أقاليم أفريقيا، في ظل السمات الاجتماعية، والواقع الأمني، والمصالح الغربية، والاكتشافات البترولية، والمصالح الاقتصادية، جميعها شجعت العديد من القوى الإقليمية والدولية، وعلى رأسها فرنسا والولايات المتحدة، على الدخول إلى ساحة التنافس في عدد من الدول، خاصة مع شيوع الحركات المتشددة، وانتشار ظاهرة الإرهاب في الدول التي تعتبر ساحة انتقال وعبور الهجرة غير الشرعية التي تهدد الدول الأوروبية، وهي مناطق الجريمة الدولية المنظمة، بما يحمل تداعيات على المصالح الأمنية والسياسية والاقتصادية للدول الغربية.
هذا ما جعل الولايات المتحدة وفرنسا تبحثان عن أنسب الآليات التي تحقق أهدافهما، خاصة منطقة الساحل الأفريقي، بحثاً عن الأمن الغربي بالمعنى الشامل في أبعاده كافة، ذلك من خلال أدوات سياسية تؤكد من خلالها الدولتان على قوتها التأثيرية، لذلك كان لها موقف في الأزمات السياسية التي برزت في كافة أقاليم القارة، وخاصة منطقة الساحل الأفريقي، كالأزمة التي برزت في مالي بعد إعلان بعض التنظيمات الانفصال بشمال هذه الدولة في عام 2012، والأزمة في أفريقيا الوسطى بعد إسقاط حركة "سيليكا" للرئيس "فرانسوا بوزيزيه" نهاية عام 2012 وبداية عام 2013، وشيوع مظاهر العنف بين تنظيمات لها مرجعيات دينية، وكان مع تلك الأدوات السياسية نظيرتها الأمنية، حيث قامت كل من فرنسا والولايات المتحدة بتحريك بعض قواتها وقطعها الحربية، بهدف تسوية بعض الأزمات التي ظهرت في دول أفريقية.
فعندما تصبح دول القارة الأفريقية من المقاصد الاستثمارية الأساسية لكافة الدول والقوى الاستثمارية الرئيسية، وتصبح هي المسؤولة عن تأمين قرابة 25% من احتياجات النفط للولايات المتحدة، وتكون ساحة تنافس لإنشاء قواعد والحصول على تسهيلات عسكرية في سواحل دولها، وتتنافس كافة القوى للتواجد في دول القارة لتأمين مصالحها وأمنها، والحفاظ على خطوط التجارة الرئيسية، ومنع التهديدات الأمنية التي يمكن أن تأتي لها من أفريقيا، ومع وضوح المصالح الأوروبية، وظهور اختلافات بها عن المصالح الأمريكية، وخاصة على الأصعدة الاقتصادية والاستثمارية والأمنية، وبروز المصالح التي للقوى الإقليمية المرتبطة بالتوجهات الغربية في القارة الأفريقية، جميع تلك المتغيرات جعلت التنافس إجباريا لا اختياريا للقوى التي تحاول تعظيم عوائدها.
مستقبل الإرهاب في دول الساحل
تتنوع صور التواجد الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي من خلال العديد من المظاهر والأدوات وقد زادت كثافة وصور ذلك التواجد مع التحرك الفرنسي بعد انفصال شمال مالي في عام 2012، وموقفها من التطورات التي كانت في أفريقيا الوسطى بداية من نفس العام، وتدهور الوضع الأمني في النيجر، لتظهر بعدها دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لتكوين قوة أوروبية، وهي الدعوة التي تزامنت مع أحداث الجزائر، والتطورات السياسية في السودان، وتفاقم الأزمة السورية والعراقية، والخلاف الأمريكي مع إيران، كافة تلك المتغيرات أكدت أن فرنسا تحاول البحث عن نهج مستقبلي مستقل، وتأخذ من منطقة الساحل الأفريقي ساحة لاختبار إمكانية التطبيق وجدوى أدواته، وطبيعة الرد الأمريكي على ذلك التوجه.
لذلك أعلنت فرنسا في أكثر من مناسبة على لسان مسؤولي وزارة دفاعها في عامي 2017 و 2018 عن نيتها تشكيل "قوة عسكرية" مع شركاء أوروبيين للمساهمة في تدريب جيوش دول الساحل الأفريقي خاصة، وهو ما أكدته وزيرة الجيوش الفرنسية "فلورانس بارلي" يونيو/حزيران 2019، وفسرت تشكيل تلك القوة بأنها لمساعدة "قوة البرخان" الموجودة، وستكون تحت القيادة الفرنسية، وكان قد أكد هذا الاتجاه مبعوث فرنسا الخاص إلى دول الساحل الأفريقي "لريستون بيغو"، في إطار الإنذار من تمدد تأثير الإرهاب في دول الساحل، وخاصة مالي وبوركينافاسو، والتكلفة المادية والبشرية التي تتحملها فرنسا، والتي كان آخرها الهجوم الذي وقع في وسط مالي في "بولكيسي وموندورو"، وراح ضحيته عدد من الجنود الفرنسيين والماليين في مستهل أكتوبر/تشرين الأول عام 2019.
وتختلط الأبعاد الأمنية والعسكرية المتعلقة بالحرب على الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي بالعديد من الأهداف السياسية والاقتصادية الفرنسية في هذه المنطقة، حيث أدت السمات الجغرافية وعدم التجانس الاجتماعي والإثني، وغياب فلسفة المواطنة، وطبيعة تأثير المجتمعات التقليدية، وضعف الدولة وأجهزتها الأمنية، إلى جعل منطقة الساحل الأفريقي بيئة خصبة لانتشار الجماعات والتنظيمات الإرهابية، بل وشهدت هذه المنطقة تحالفات بين تنظيمات بعينها، تلك التي تحاول البحث عن فضاء آمن، وترى أنها وجدت ضالتها في منطقة الساحل الصحراوية، وما تشكله من فرصة لتهديد أمن المنطقة، والتأثير على المصالح الأوروبية، وعلى الأمن القومي لعدد من دول الجوار.
هذا ما دفع فرنسا إلى إطلاق "عملية برخان" منذ أغسطس/ آب عام 2014، والتي تضم أكثر من 3 آلاف جندي، واتخذت من تشاد مقراً لها، وتم تصميم هذ العملية لتضم 5 دول هي بوركينافاسو، وتشاد، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وهي عملية جاءت تالية لعملية "سرفال" العسكرية الفرنسية في مالي، وعملية "الباشق" في تشاد، وحددت فرنسا هدف علمية "برخان" بأنه منع مرور الإرهابيين عبر تلك المنطقة بما يهدد أمن الدول الأوروبية، وستكون قوات تلك العملية بمثابة قوة تدخل سريع في حالة وجود أزمة ما في دول المنطقة.
وتم نشر أكثر من 1000 جندي في مالي، وأكثر من 1200 جندي في تشاد، والأعداد المتبقية عبارة عن قواعد مراقبة في بقية الدول الخمس، حيث تم تقسيم تلك القوة إلى أربع قواعد؛ الأولى قاعدة للقوات الجوية في تشاد، والثانية قاعدة إقليمية بمدينة غاد في مالي، وقاعدة في واجادوجو في بوركينافاسو، وقاعدة استخباراتية في عاصمة النيجر "نيامي"، التي تضم طائرات بدون طيار تجمع معلومات، وقد حظيت تلك العملية بدعم أوروبي، بخاصة من بريطانيا وألمانيا، وحققت نجاحات، لكن تكبدت فرنسا معها خسائر عدة في المعدات والجنود في بعض المراحل.
لكن يبدو أن إعلان "ماكرون" عن طبيعة دور فرنسا في مكافحة الإرهاب في الساحل الأفريقي، وعن عزم فرنسا التنسيق مع قوات وجيوش المنطقة لمكافحة الإرهاب، وأنها تحاول تشكيل تحالفات مع دول المنطقة لمواجهة تلك الجماعات، وإعلانه في قمة السبع G7 في أغسطس/ آب عام 2019 عن إطلاق مبادرة جديدة للشراكة من أجل الاستقرار في الساحل الأفريقي، وأنه سيتعاون مع ألمانيا في هذه المبادرة الجديدة، كل ذلك جاء بعد إقرار الجنرال "فرانسوا لوكوانتر" رئيس أركان الجيش الفرنسي بأن عملية "برخان" "لن تحقق انتصارات عظيمة في الحرب التي نخوضها.. إننا لا نحارب الإرهاب بل الإرهابيين، ومؤشر النجاح ليس عدد القتلى من الإرهابيين، بل كمية السكان الذين لم يصبحوا تحت سيطرتهم"، وحدد هدف تلك العلمية بأنه "إبقاء الوضع العام تحت سقف محدد من العنف.. ومنع الإرهابيين من ضرب فرنسا"، وهو ما يتوافق مع إعلان وزارة الداخلية في فرنسا في نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019 عن إحباط هجوما يماثل ما حدث في الولايات المتحدة في 11 سبتمبر/ أيلول عام 2001.
وهو ما أكده الأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو جوتيريس" في 26 سبتمبر/أيلول 2019 حين أكد أن دول غرب أفريقيا والقوى الدولية تفشل إلى الآن في احتواء الإرهاب المتصاعد في الساحل الأفريقي، مشيراً إلى العمليات التي شهدتها مالي وبوركينافاسو، وامتداد العنف إلى خليج غينيا، وذلك رغم رفع فرنسا عدد قواتها في دول هذه المنطقة إلى قرابة 4500 جندي، ووجود قوات تابعة للأمم المتحدة في مالي تقدر بنحو 15 ألف جندي، وجهود التدريب والمساعدات الفرنسية والألمانية لدول المنطقة.
وتسبب هذا النشاط والدور الفرنسي في إثارة حفيظة التمدد الأمريكي في دول الساحل الأفريقي، ومحاولة الولايات المتحدة السيطرة على تلك المنطقة من خلال المبادرات التي أطلقتها، وتأسيس القيادة الأمريكية الموحدة لأفريقيا "أفريكوم"، ومحاولة مزاحمة النفوذ الفرنسي.
لذلك تحاول الولايات المتحدة استخدام ذات النهج الاستباقي في التعامل مع دول الساحل الأفريقي، من خلال أدوات أمنية، وتواجد وحداتها العسكرية، وتدريبات مشتركة، وطرح مشروعات استثمارية واقتصادية تخدم ذلك التوجه، والتدخل بصورة مباشرة في مناطق الأزمات، وتحديد سبل التسوية برؤى تقوم على خدمة والحفاظ على المصالح الأمريكية.
إلى جانب محاولة فتح مجالات التعاون والتنسيق مع الدول والمنظمات الأفريقية القارية والإقليمية العاملة في منطقة الساحل الأفريقي من خلال عدة مبادرات لمواجهة الإرهاب، كان أهمها "مبادرة الساحل الأفريقي" Pan-Sahel Initiative التي تم إطلاقها في عام 2002، ومعها دعم مالي، ثم جاءت "مبادرة مكافحة الإرهاب عبر الصحراء" The Trans-Saharan Counter Terrorism Initiative التي تم إطلاقها في 2004، قبل أن يتم الإعلان عن تأسيس "أفريكوم" في فبراير/ شباط عام 2007، كقيادة أمريكية موحدة للقارة الأفريقية، وتبني "استراتيجية أفريقيا الجديدة" التي أطلقها "جون بولتون" مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي في ديسمبر/ كانون الأول عام 2018.
هذا ما أعطى الولايات المتحدة القدرة على التمدد والتعاون العسكري والتأثير على العقيدة العسكرية لجيوش دول الساحل الأفريقي، وتكثيف وجودها بحجة مكافحة الإرهاب، وهو ما جعلها تتوسع في تشاد ومالي والنيجر، وقدمت مزيدا من المساعدات لمثل تلك الدول.
ويمكن تفسير حدة التنافس داخل منطقة الساحل الأفريقي، بسبب أن الأخيرة باتت من محددات أمن الطاقة لبعض الدول الغربية، ومن المناطق الأساسية لمواجهة الإرهاب والفكر المتطرف قبل أن يطول الدول الغربية، كما أنها أهم ساحات مواجهة الهجرة غير الشرعية التي تهدد القارة الأوروبية، فدولة النيجر وحدها مسئولة عن عبور 75% من المهاجرين الأفارقة الذين يقصدون ليبيا تمهيدا لعبور البحر المتوسط إلى أوروبا، لذلك دخلت ألمانيا إلى ساحة التنافس بافتتاح قاعدة لوجيستية لها في النيجر، وأعلنت أنها تنسق مع فرنسا لمجابهة التحديات الأمنية في تلك المنطقة، خاصة بعد العمليات الإرهابية التي شهدتها مالي والنيجر.
في النهاية يمكن التأكيد على أن حسابات التنافس والسيطرة على تلك المنطقة قد ظهرت لها إرهاصات في العديد من المناسبات، بخاصة بين فرنسا والولايات المتحدة، في المناطق التي كانت تحت سيطرة النفوذ الفرنسي بالأساس، وهو ما يؤكده تمدد نفوذ الولايات المتحدة، وتعدد أشكاله، وتطور آلياته، وهو ما ينبئ عن أن المستقبل يحمل المزيد من ذلك الوجود.
بقلم/د. باسم عدلي