الغد أول صحيفة عربية مالية
نهاية مهمة رئيس الوزراء في مالي

الشّيخ يعقوب دكوري.. العالم الذي أهملناه

بواسطة kibaru
الشيخ دكوري وكتبه

أذعتُ أمس سطوراً في غاية الاختصار والإيجاز عن الشّيخ العلّامة يعقوب دكوري، تشيدُ بجهوده المقدَّرة في التّأليف المتراحب الواسع، ثمَّ في إنشاء مكتبةٍ ضخمةٍ تضمُّ من نفائس الكتب ما يبلغ خمسين ألف كتابٍ. وقد قلتُ ما قلتُه مبتهجاً بهذا الرّجل، وراغباً في أن أحثَّ إليه الهمم الرّاكدة، وأصرف إليه أنظار الدّارسين والباحثين، لكنَّ نفسي ما لبثتْ أن احترقت ندماً على قصورها عن إدراك نتفةٍ يسيرةٍ من سيرة هذا الأستاذ الكبير أردُّ بها على التّعليقات المستفهمة التي تقاطرت على المنشور من كلّ صوب، فذهبت نفسي على ذلك حسراتٍ وحسراتٍ وحسراتٍ، ثمّ نازعتني إلى كتابة كلمةٍ مختصرةٍ في هذا الباب، أهتدي وأهدي بها النّاس إلى آثار هذا الرّجل وأعماله، فحرتُ في استيفاء ذلك حيرةً شديدةً؛ إذ كيف لي الوفاء به وأنا لا أحيط عن هذا العالم بما ينقع الغلّة، فبقيتُ محترقاً بهذا الهمِّ إلى أن غشيني من النّعاس ما غشيني، فطرحتُ الهمّ جانباً، واتّخذتُ النّوم صاحباً لا مناص من قضاء دينه المغلّظ.
ثمَّ أطرب النّفس، وأذهب داءها أن صحوتُ قبل قليلٍ، فوجدتُ صوتاً لطيفاً يناجيني بين الرّسائل، ويحدث لي من أمر الشّيخ ذكراً، وإذا به صوت نجله النّجيب الشّيخ سعيد يعقوب دكوري؛ فقد بعثَ إليَّ قائمةً بأسماء كتب والده، وأتحفني عنه بمذكّرةٍ علميّةٍ واقعةٍ في 38 صفحةً كتبها الأستاذ الفاضل أبو بكر دكوري - حرس الله مهجته -، فالتهمتُ هذه المذكّرة قراءةً ونظراً، ووجدتُ فيها حديثاً كافياً عن حياة الشّيخ وثقافته وأعماله، ونحن لن ننقل شيئاً من عبارات هذه المذكّرة إلّا ما لا بدّ من نقله؛ كالتّواريخ وأسامي الشّخصيّات والمؤلّفات، وكذلك لن نذكر كلّ ما ذكره الكاتب؛ لأنّ من العسير إدراك ذلك في هذه العجالة، بل سنعرض بأسلوبنا الخاصّ أهمّ ما فيها عن الشّيخ يعقوب دكوري، مقتصرين في ذلك على ما يضيء للقارئ مجاهلَ حياته العلميّة التي استقامت سدّاً منيعاً يردّ عن كثيرٍ من المسلمين سيلَ الجهل والباطل في الدّين والدّنيا معاً. 
وُلد الشّيخ يعقوب دكوري في مدينة (كاي) بمالي، سنة 1945م، في قبيلةٍ نبيلةٍ شريفةٍ يُطلق عليها اسم (سونينكي)، وأبوه هو (بنجوغو دكوري)، وأمّا أمّه فهي الفاضلة (كمبي سيبي) التي انحدرت من سلالةٍ حسانيّةٍ موريتانيّةٍ رحمهما الله. وقد فتح بصرَه على هذه المنطقة من الأرض، والنّاس بطلب العلم في اشتغالٍ محتدمٍ، فالتحق بالمدرسة المحمّديّة في مدينة (كاي)، إلى أنّ تخرّج فيها بالشّهادة الثّانويّة، ثمَّ جثا على الرّكب أمام مشايخ هذه المدينة، وأخذ ينهل من معين علوم الشّريعة واللّغة في حرصٍ وحزمٍ وعزمٍ، ويحفظها ويستوعبها في هدأةٍ ولطفٍ وسكونٍ؛ ومن أشهر مشايخه، أجزل الله لهم المثوبة، الشّيخ (أبو بكر بارو) الذي ترك في حياته أثراً لا يُمحى، وبصّره بمداخل العلوم ومخارجها، وهدى خطواته إلى مغاليق المسائل ومفاتيحها، فلم يزل به يعلّمه، ويدرّبه، ويروّضه حتّى خرّجه عالماً بصيراً قد حوى من العلوم ما حوى.
ولعلّ طبائع الزّمان والمكان لم تمكّن الشّيخ من الخروج عن بلاده؛ للزّيادة على ما تعلّمه في المدرسة المحمّديّة، وما أتى إليه من علومٍ خلال ملازمة العلماء والمشايخ، فنمّى هذا الرّصيد العلميّ الذي استسقاه من المدرسة والمشايخ، وعكف على تطويره وتحسينه بالتّثقيف الذّاتيّ على سنّة علماء ذلك الزّمان، فما وهى وما ونى، بل بدّل بالكتب الصّحاب، لا يصرفه عنها شيءٌ من صوارف الدّهر.
وبعد أن استوى علمُه على سوقه، اتّصل بالعلماء، ولقي الأدباء، وزار المكتبات في أطراف الدّنيا، فألقى عصا التّسيار ببلاد الشّناقطة (موريتانيا)، ثمَّ ولّى وجهه شطر بلد العلم والأدب (السّنغال)، فعرف من أحوال أهل العلم ما عرف، وعطف على ذلك المشاركةَ في مؤتمراتٍ ودوراتٍ علميّةٍ كثيرة، قابل فيها العلماء والأئمّة في مصر، والسّعوديّة، والمغرب، وإيران، والجزائر، وتركيا، وغيرها من دول العالم الإسلاميّ. ويجب أن نعلم أنّ بين طلب الشّيخ للعلم، واستحصاده فيه، وبين المشاركة في هذه اللّقاءات العلميّة صولاتٍ وجولاتٍ يتقاصر القلم عن الإلمام بكلّ أطرافها في هذه الكلمة الموجزة.
نشأَ الشّيخ سائراً على هذا الدّرب في شؤونه، فأسّس مدرسة (أمنا) التي رصدها لتعليم العربيّة والإسلام، وأصبحَ إماماً خطيباً في أحد الجوامع الكبرى في دولة مالي، ومفتياً في أدب الدّين والدّنيا في إذاعاتٍ محلّيةٍ شتّى. وكذلك أسّس دائرةً إسلاميّةً واسعةً للدّراسات الإسلاميّة يفد إليها للاستفادة عددٌ جمٌّ غزيرٌ من الذين لم يحالفهم الحظّ في دراسة الإسلام، وللشّيخ مع كلّ هذا نشاطٌ مائجٌ في الجمعيّات والمجالس الإسلاميّة.
وليس غريباً فيمن كان هذا دأبَه، أن تكون له جهودٌ في خدمة الإسلام، بل من الحريّ بالذّكر أنّ كلّ الذين يدرسون العربيّة في هذه البلاد إنما يتغيَّون بدراستهم فهم الإسلام وخدمته ونشره في خوافق الأرض، وقد حقّق الشّيخ ذلك كلّه، فخاض مناظراتٍ خطيرةً شنّ فيها حرباً شعواءَ ضروساً على الحركات المسيحيّة التّبشيريّة في مالي، ونقض بها أركان عقيدة الفداء، والصّلب، والتّثليث، حتّى خلص إلى وضع كتابه الماتع بعنوان: (الإسلام والنّصرانيّة)، الذي تُرجم إلى اللّغة الفرنسيّة فيما بعدُ، وقد أثمرت المناظرات التي نأى فيها بجانبه عن أسلوب السّبّ الذي ينتهجه كثيرٌ من الدّعاة، ولجأ إلى استخدام أدلّة العقل والنّقل في الإقناع والإخضاع، أن دخل النّاس في دين الله أفواجاً.
وعلى الرّغم من الميل الصّوفي المشوب بدم الشّيخ يعقوب دكوري، كما عليه أكثر مشايخنا في غرب أفريقيا، فهو سيفٌ صارمٌ مسلولٌ على الذين ألحقوا بالتّصوّف ما ليس منه بهتاناً وزوراً، كما أنّه لهيبٌ مستعرٌ متأجّجٌ يحرق التّيّارات الفلسفيّة الإلحاديّة المادّيّة في مالي، وقد بيّن تهافتها في كتابه الذي أسماه: (الفلسفة المادّيّة وبطلانها)، أطلق فيها عاصفةً من نقد شبهات هذه الفلسفة لا يقف أمامها شيءٌ.
ومن غريب ما وقعتُ عليه، ودلّني على طول نفس هذا الرّجل أنّه في قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ناقشَ الشّيخَ خالد الظّنط الجزائريّ الذي كان إماماً في أحد مساجد فرنسا، وذلك  بمراسلاتٍ علميّةٍ دامت بينهما ثلاث سنوات، وقد انطوت هذه المراسلات على فوائدَ كثيرة ليس هنا حقّ ذكرها، جمعها في كتابه الموسوم بــ(المراسلات في الأسماء والصّفات).
ولعلَّ هذا الذي ذكرناه كافٍ للدّلالة على هذا العالم، وعلى مدارج حياته العلميّة، ويبقى أن نفيض في ذكر بعض كتبه التي تناهزُ 200 كتاب حسب الإحصاءات الأخيرة، عارضين فقط أسماء عشرين كتاباً بلا تحليلٍ؛ حتّى لا نوغل في الإطالة والإسهاب، وباعثنا على هذا العرض هو أن يعلم القارئ مبلغ هذا الشّيخ من العلم:
1. مراحل الدّعوة في الإسلام.
2. الوجيز في عوامل النّحو وعلامات الإعراب.
3. طبّ الجنان في القصائد الحسان.
4. تاريخ الدّعوة والدّعاة في مالي قديماً وحديثاً.
5. تصوّفنا ومراحله.
6. التّصوُّف الصّافي المشروع.
7. الإرهاب ضدّ الإسلام.
8. الشّباب في الإسلام.
9. حديث افتراق الأمّة.
10. وسائل الوصول إلى معرفة الإله الحقّ.
11. دور علماء الدّين في تعزيز السّلم وتوحيد صفّ المسلمين.
12. العقيدة الإسلاميّة.
11. مقامات الإسلام والإيمان والإحسان.
12. الإسلام والنّصرانيّة.
13. الميزان الفارق بين الحقّ والباطل.
14. الفلسفيّة المادّية وبطلانها.
15. أسماء الله الحسنى: معانيها وفوائدها.
16. العلاقة بين الحقيقة والشّريعة.
17. المرأة في الإسلام.
18. مدائح نبويّة محمّديّة.
19. البدعة تعريفها وأمثلتها.
20. الإسلام والسّياسيّة.
هذه عشرون  كتاباً من تلك الأعداد الهائلة، ما بين مختصرٍ ومطوّلٍ،  وما بين مخطوطٍ ومطبوعٍ، تنفسّتْ عنها جهود الشّيخ يعقوب دكوري، وهو من الذين جمعوا إتقان النّثر إلى إجادة الشّعر، وله في كليهما يد طولى، ولعلّ القارئ لن يصيبه بعد هذا العرض شيءٌ من الاستغراب إذا قلنا عن هذا الرّجل بأنّه علّامةٌ رابضٌ في أفريقيا لا يعرف عنه كثيرٌ من النّاس، ويمكن للباحثين أن يجدوا في هذه الأعمال منبعاً ثرّاً يستطيعون أن يديروا حوله البحث والدّراسة في الفكر، والتّاريخ، والأدب، والشّعر، وعلوم الشّريعة، فلن يخيب أمل الباحث، ولن يكسد عملُه إذا عقد رسالة بعنوان: (الإسلام في فكر الشّيخ يعقوب دكوري)، أو (الشّيخ يعقوب دكوري: حياته وشعره)، أو (شبهات الفلسفة المادّيّة ونقدها عند الشّيخ يعقوب دكوري)، أو (الشّيخ يعقوب دكوري وجهوده في الدّعوة والتّعليم)، أو (ماهيّة التّصوّف وميزانه عند الشّيخ يعقوب دكوري)، وما إلى ذلك من العناوين التي يمكن للباحث دراستها حول هذا الإرث الضّخم المستطيل على علومٍ شتّى.
أمّا بعدُ؛ فهذه كلمة مختصرة غير كافية أردتُ بها صرف وجوه النّاس إلى هذا الرّجل العظيم الذي أعطاه الله عقلاً لا يتعب، ونفَساً لا يتوقّف.
 
وكتبه: محّمد موسى كمارا، كاتب وباحث من غينيا