الغد أول صحيفة عربية مالية

ظاهرة الأَجِنَّة المهاجرة... قراءة في الحراك الاجتماعي الإِفْرِيقي

بواسطة kibaru

عرّفت الهجرة بأنها"الانتقال من البلد الأم للاستقرار في بلد آخر"، وبتعبير آخر هي: تلك الحركة السكانية التي ينتقل فيها الأفراد والجماعات من موطنهم الأصلي إلى وطن جديد يختارونه، نتيجة أسباب تسمح بها ظروف الدولة المستقبلة، وبما يخدم الأوضاع الاقتصادية لكل من دولة المهجر ودولة المنشأ، ومن خلال آليات تعاون فني وأمني وقضائي وتشريعي، وفي إطار الاحترام الكامل لحقوق المهاجرين.   

وقد تتسبب عوامل كثيرة للهجرة منها البحث عن المستوى المعيشي الأفضل، والعمل الأفضل، والهروب من الاضطهاد بسبب العقائد الدينية أو سياسة معينة، كما تكون بسبب الكوارث كانتشار الأمراض، أو ظهور المجاعات، أو الحروب.    

وفي هذا السياق تتضح أن الهجرة ظاهرة إنسانية وجدت مع وجود الإنسان على هذا السطح، تختلف ارتفاعا وانخفاضا طبقا للمؤثرات التي تحكمها وتوجهها؛ بَيْدَ أن أغرب هجرة بشرية عرفها المجتمع الإفريقي نهايات القرن الماضي، وبدايات الحادي والعشرين، تتمثل في انتشار سياحة الولادة، التي أسميتها بـ (ظاهرة الأجنة المهاجرة)، والتي تعني رحلة الحامل إلى الاتحاد الأوروبي أو أمريكا الشمالية؛ لوضع مولودها هنالك، بغرض حصول الطفل على الجنسية، ما أفرز لونا من الهجرات التي لم تُعهَد من ذي قبل.        

وتبقى قراءة هذا الحرك الظاهرتي وتحليلها من خلال سيناريوهاتها التبريرية، أنها من أجل توفر الرعاية الصحية العالية في الغرب، علما بأن الحامل كانت تحظى بدقة المتابعة وطنيا، قبل تمطط الطائرة، ما يطرح سؤالا مفاده:أليس من مقدور الأطباء المحليين، توفير المستلزمات الصحية اللازمة للأم لحظة الإنجاب؟ أم أننا لا نزال نفتقد في دولنا ذلك النموذج المثالي ذات مواصفات خمسة نجوم في عالم الصحة، ما يزيد ارتفاع نبضات تفكير السفر كلما اقترب موعد الولادة؟           

وقد لا يعني هذا التساؤل أنصار هذه الظاهر- لأنه كما يقال: إذا عرف السبب بطل العجب- ما دام الهدف من الانجرار خلف موجاتها، هو استحصال الجنسية الغربية، ووداع عالم التخلق والكوارث، وضمان المستقبل السعيد.                     

وبشيء من التأمل في تداعياتها وآثارها على المجتمع، يتكشف من الناحية الاقتصادية فحش ما يُصرف ذهابا وإيابا، فضلا عن فاتورة الإقامة والخدمات الطبية، التي تقدر بآلاف الدولارات، وذلك في إشارة إلى حجم الخسارة التي تتكبّدها الدولة الأم، مقابل تقوية الاقتصاد الأجنبي (الدولة المضيفة).

كما يتأكد من الناحية الاجتماعية أن في ظل ذيوع هذا النوع من التفكير الهروبي وفشوه، تغيب وتذبل فكرة تطوير مراكز الصحة الوطنية من الحالة المتردية التي تمر بها إلى الجودة العالية؛ لأن المسؤولين عن تطويرها وإصلاحها، هم رواد فكرة الاستشفاء الخارجي، بما أجادت عليهم الثرة التي لا تبخل عليهم بالقفز، كلما حاولت الوعكة الصحية اقتحام باحتهم الطاهرة.      

أضف إليه التربية الاجتماعية الهشة، التي يُنشَأ عليها الطفل الذي غُرس فيه الولاء الخارجي، فكيف تكون نظراته تجاه الوطن الأصلي؟ وما ذا يتوقع منه؟ ألا يكون ذلك ذريعة لتهميش الوطن، بعدم الإخلاص والتضحية له، في حصيلة عملية سلب هُويته جزئيا، مقابل تعزيز الانتماء الأجنبي فيه، فإذا ما حدثت أزمة عابرة، تيمم الوطن الآخر، غير آبه بما يؤول على الأول من وبال المغبّة؟             

هذا ولا تستبعد أن تكون (هجرة الأجنة) في بداياتها حالات استثنائية، ثم ما لبثت أن انحرفت عن المسار الطبيعي إلى ظاهرة شائعة في المجتمعات الإفريقية.            

متجاهلين حالة الدول المهاجرة إليها- التي بات ينظر إليها اليوم بعين الإعجاب- أنها في فترة من التاريخ لم تكن شيئا مذكورا، تعرضت خلالها لفصول من المحن الفكرية والعلمية، والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي اجتابتها، لكنها بفضل الرجال الأفذاذ الأوفياء المناضلين اجتازتها- ضاربة سهما وافرا من التقدم العلمي والتقني- حتى وصلت إلى القيادة العالمية.       

فإذا ما أردنا تحقيق النموذج الغربي المعاصر، فلنُعنى بجوهر الحضارة (الإنسان) الذي عنوا به تربية وإعدادا، وخلق مواطن مخلص، يسهر في سبيل إسعاد الشعب علما وفكرا وسلوكا، بهذا يمكن مماثلة الغرب في إنجازاتها العلمية والحضارية.           

متذكرين - في الوقت نفسه- أن مجرد ولادة طفل في مجتمع ما بُغيَة الحصول على الانتماء الورقي (الجنسية)، لا يعني شيئا، إذا لم يمتلك مواصفات الإبداع والاختراع، لأنه سيبقى في نهاية المطاف مجرد رقم مضاف إلى قائمة الإحصاءات.    

وعليه، ما ينبغي لنا الاغترار بالأُبُهَّة الغربية، غافلين عن القيم العليا التي أسست عليها، وهي العناية بالإنسان عنصر التقدم والبناء الحضاري، وبهذا فقط نضرب أرقاما قياسية في إحصائيات النّماء المستقبلي، أما إذا اختُزِلَ الدور في خانة (المضاف إليه)، سيبقى الحصيلة - بلا شك - وفق سنن العقد الاجتماعي مؤخرة الحضارة، جرًّا تارة بالكسرة، ومضافاً تارة أخرى؛ بل في حالة انكسار دائم، كلما حاولنا الخروج منها، أُعدنا فيها، وقيل لنا: ذوقوا نصيب الانهزام وقابلية الاستعمار والإملاء بما كنتم تعملون.   

 ولنضع في الاعتبار أن بناة الحضارة الحديثة التي تنهزم أمامها سماسرة (الأجنة المهاجرة)، لا تختلف عن غيره في شيء من الأوصاف، فهم بشر كالغير، وإن تكن ثمة خلاف، ففي الشكل الظاهراتي (اللون)، وهذا ما لا علاقة له بفكر تأسيس أو بناء مجتمع متقدم ذات حضارة عريقة.

وعليه يلزم البحث عن أسباب تقدمهم وتقهقرنا، عَلَّنا ننفض عن أنفسنا بعض غبار التخلف الذي خَيَّمَ علينا بُرهة من الزمن، ساعين للالتحاق بموكب المدنية الغناءة؛ بذا ننأى بأنفسنا بعض ما يخالجها من الشعور بالنقص، والهزيمة النفسانية، التي بلغت بنا إلى هيستريا جماعية صارت ضحيتها الأولى الأجنة البريئة.     

أنقبل أن يكون هذا هو مستوى نضج التفكير الإفريقي، فبدل أن يفكر في إصلاح جيوب التخلف السياسي والاجتماعي والفكري، التي عرقلت مسيرته الحضارية، والعمل على إحداث أكبر ثورة تاريخية، تُشنَقُ فيها كهنة تخلف القارة، التي تُقتَاد يوما بعد يوم إلى عالم مجهول، فبدل أن يفعل ذلك، يُلَخِصّ نفسه في التطفل على مائدة الآخرين، التي قد تكون مسمومة، ستودي بحياته في أي لحظة!!؟؟

                                                  

 يونس سعيد توري/ إعلامي وباحث وأستاذ جامعي