قديما قالوا إن الصداقة تصنع المعجزات في العلاقات الإنسانية” ، تلك حقيقة لم تعد محل شك أو ريبة فالتجربة تثبت صحتها يوما بعد يوم. فتيات موريتانيات من مختلف الشرائح الاجتماعية جمعتهن الصداقة فصنعن بها ما عجز عنه الكثيرون ، كمب، مريم ، عائشة السالكة ، هولاي ، وأخريات غيرهن قرَرن بحسّهن الإنساني المشترك أن يضعن جانبا حواجز الثقافة واللغة والعرق ليصنعن نموذجا مصغرا لمجتمع يحلم به كل موريتاني يتطلع لقيام مجتمع متسامح تذوب فيه الفوارق الاجتماعية وتختفي فيه النزعة العنصرية وتتلاشى فيه الكراهية والطبقية ليحل محلها التسامح والانفتاح وتقبل الآخر.
مجتمع الفتيات الصغير هذا تجربة فريدة من نوعها في موريتانيا ، تجربة تستحق بكل جدارة أن يسلط عليها الضوء وأن تقدم كنموذج يحتذى به في مجتمع يتربص به المتطرفون وأصحاب النزعة العنصرية ، لكن هؤلاء الفتيات أردن أن يثبتن أن ما يجمع الموريتانيين أكثر مما يفرقهم وأن اللحمة الوطنية والوئام الوطني مسألة إرادة وسلوك يتحلى به الأفراد قبل أن يكون قرارات تصدرها جهات رسمية أو مادة للمساومة في صالونات النخب السياسية الأمر الذي يجعل الوحدة الوطنية سلعة يتاجر بها الانتهازيون . دلفنا إلى مجتمع الفتيات الصغير الجميل المنسجم مع ذاته لنستطلع المزيد عن طموحاتهن واهدافهن ونظرتهن للمستقبل .
عندما تلتقي بهن لأول مرة تشعر وكأنك تعيش حلما طالما راود خيال كل واحد منا ، فتيات من مختلف المناطق والخلفيات العرقية والثقافية يجلسن معا ويتجولن معا ويأكلن ويشربن ويتسوقن ويمرحن ويستمعن للموسيقى معا ويتبادلن أطراف الحديث كأنهن أفراد أسرة واحدة .التقينا بهن في أحد منتزهات انواكشوط حيث اعتدن أن يلتقين ، سألنا إحداهن وتدعى مريم منت عبد الله ) تنحدر من مدينة أطار( عن سرّ هذه الصداقة التي تخطّت حواجز اللغة والعرق ، ردّت علينا قائلة ” عندما التقيت لأول مرة معهن شعرت أن ثمة شيء يجمعنا ، شيء ما يشدنا إلى بعضنا متجاوزا خلفياتنا العرقية والثقافية ، وقد تبلورت مع الوقت القواسم المشتركة بيننا لتبرز في تقاسمنا لهموم المرأة الموريتانية وفي انتمائنا لوطن واحد ومجتمع واحد عاشت مكوناته على مدى قرون في حيز جغرافي واحد، وليس من الوارد أن نأتي نحن أبناء القرن الحادي والعشرين لنزرع الشقاق والخلاف والعنصرية بينه ، هذا أمر مرفوض وسنقف بقوة ضده” .
وتضيف مريم بلهجتها الحسانية الممزوجة ببعض الكلمات من البولارية والولفية ” نحناتي ما انصيبو عن بعضنا ، بينا ألِّ “كوتم” و”خاريت” )كوتم تعني إخوة بالبولارية وخاريت تعني أصدقاء بالولفية(.انتقلنا إلى هولاي كان ، الفتاة المنحدرة من مركز انتيكان الإداري وسألناها كيف ولماذا التحقت بمجموعة الصديقات هذه ؟ بادرتنا بالحديث بحسانيتها المتعثرة قليلا ” مرهبا اشتاري وني” ثم أردفت مع ابتسامة عريضة ” لقد بدأت أتحدث الحسانية بطلاقة بفضل صديقاتي البيظانيات أنا سعيدة جدا لقد أصبحت افهم كل شيء حتى عبارات الغزل التي يتلفظ بها الشباب في الشارع” . وتضيف : أما عن أسباب وكيفية انضمامي لهذه المجموعة فقد تم ذلك من خلال صديقة لي في الدراسة أمها من البولار ووالدهامن شريحة البيظان ، وعندما عرّفتني عليهن أعجبني أفكارهن وأسلوبهن في الحياة ونظرتهن الراقية لكل شيء ، واستهواني كذلك هذا الخليط من الأعراق ، خصوصا وأنهن فتيات مثقفات ويطمحن لترسيخ أفكار ايجابية في أذهان الناس ، ويدافعن عن حقوق النساء ، ويتطلعن لبناء مجتمع متسامح متعددة الثقافات ، هذه أفكار كلها تعجبني وأنا ادعمها بقوة وسأدافع عنها من اجل تحويلها إلى واقع ملموس” .
بدورها تحدثت إلينا السالكة منت امبارك الفتاة القادمة من ولاية العصابة شارحة كيف أنها كانت تتطلع منذ فترة لمجموعة من الفتيات يشاركنها أفكارها ومبادئها ، وتضيف ” عندما درست مجتمعي جيدا أدركت ان هناك اخطاء وقعت في الماضي وان هناك اخطار تحدق بنا في الحاضر وفي المستقبل ولن نستطيع ان نتفادى كل ذلك الا إذا امتلكنا رؤية جديدة وتوحدت مكونات مجتمعنا وتماسكت” . وتردف قائلة ”انا شخصيا تركت كل سلبيات الماضي خلف ظهري والآن أتطلع لبناء عقلية جديدة وثقافة جديدة لمجتمعي ترتكز على العدل والمساواة واحترام بعضنا للبعض الآخر ، يجب أن لا نبقى متشبثين بأخطاء الماضي ونعيد إنتاجه بل علينا أن نأخذ منه ما هو ايجابي ونترك ما هو سلبي، وانا شخصيا لا احملأي ضغائن لأحد ، وعلاقتي بجميع صديقاتي جيدة وعندما نجتمع ننسى تلك الفوارق : بيظانية حرطانية كورية ، إنها لا تعني لنا شيء ، فأخلاقنا وسلوكنا اتجاه بعضنا هو المعيار الذي يحدد قيمة كلواحدة منا في المجموعة”.
الفتاة فاطمة منت يسلم )تنحدر من مدينة ازويرات( تقول من جانبها أن هذه المجموعة من الصديقات بدأت تنتج ثقافة هجينة يستطيع كل فرد موريتانيمهما كان مكونه الاجتماعي أن يجد نفسه فيها ، وتعزو الفضل في ذلك إلى العيش المشترك بينهن ولقاءاتهن الدائمة ، وتضيف : لقد كنت حريصة دائما على أن أدعو جميع صديقاتي للمناسبات الاجتماعية في محيطي الأسري ، ويدعونني هن أيضا لمناسباتهن ،وهذا ما سمح لي بأن أتعلم الكثير عن ثقافة البولار والولف والسوننكي، خاصة ما يتعلق بطقوس الأعراس والاحتفالات بتسمية المواليد الجدد وغيرها”. وتستطرد قائلة ” إننا مجتمع ثري بتنوعه الثقافي العرقي وهو عامل قوة وليس عامل تفرقة وضعف ، ومن غير المقبول أن نبقى منعزلين عن بعضنا ونحن نعيش في وطن واحد”.
تلك كانت مجرد نماذج من مجتمع الفتيات الصغير هذا الذي إلتقيناه بمحض الصدفة ، لكنه ترك فينا أملا كبيرا ، خاصة بعد أن أكدت اغلب المتحدثات أن مجموعتهن تتسع باضطراد وتجذب إليها المزيد من الصديقات مستغلين في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي وسمعتهن الطيبة وتقبلهن لأي صديقة جديدة شريطة أن تنبذ العنصرية والكراهية والتعصب العرقي والديني . إنهن فعلا يرسمن لوحة جميلة عن مجتمع مثالي سيولد قريبا ، مجتمع سيقطع الطريق على كل دعاة العنصرية والكراهية والنظرة الدونية للآخر ، لم يعد ذلك مجرد خيال بل جسدته هؤلاء الفتيات بإرادتهن الحرة المنفردة ووعيهن الكامل وإيمانهن بالمستقبل ، ومن واجبنا كإعلاميين ومجتمع مدني وجهات رسمية أن نعطي لمثل هذه النماذج حقها من الرعاية والاهتمام.
اعداد / السيد ولد محمودي