لم يكن "فرانسوا" يتوقّع مطلقا أن يكون مصيره المكوث أشهرا طويلة بمركز «بو رشادا" لإيواء اللاّجئين في مدينة غريان اللّيبيّة. فليبيا كانت في برنامجه مجرّد محطّة نحو أوروبّا لمّا دفع الـ 600 دولارا التّي طلبها منه الوسيط ومنّاه برحلة آمنة لا يتجاوز مداها الشّهر.
ولكن، ها أنّ الشّابّ الإريتري، ذي الـ 24 سنة والقادم من ضواحي أسمرا، لا يعرف مصيره وسط 467 لاجئا أوقفتهم السّلطات اللّيبيّة في غريان ولم تجد بعْدُ وسيلة لترحيلهم إلى بلدانهم. هم أصيلو غانا ونيجيريا وغامبيا و إريتريا.
يروي "فرانسوا" كيف تحمّل عناء رحلات طويلة قادته رفقة اخرين عبر جنوب السّودان وشماله ثمّ التشاد للوصول إلى ليبيا. واجهوا العديد من المخاطر، خاصّة لمّا تعطّلت شاحنتهم داخل الصحراء الكبرى، قرب مدينة " أم هاجر" غرب التشاد. ولكنّ الأقدار شاءت أن يُفلِت من الخطف والعنف على أيدي المهربين أو قطّاع الطّرق ويصل في نهاية المطاف إلى "مرزق" جنوب ليبيا. هناك أيضا، لم يتعرّض للاعتقال لأنّ مركز الاحتجاز الرّسمي كان مكتظّا فصرفوا عنه النّظر ولكنّ الحظّ لم يحالفه في غريان، الّتي لا تبعد سوى 200 كيلومترا عن "زوارة"، على ضفاف المتوسّط، حيث كان يزمع الإبحار إلى إيطاليا. قطع أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر لكنه أخفق في المرحلة قبل الأخيرة.
الشّاب الإريتري "فرانسوا" قال لأصوات الكثبان بأنّ "القتال الدائر في بلده، دفعه للهرب بحثاً عن مستقبل أفضل، ولكن حياته توقفت في هذا المكان وهو يعيش حاليا وضعا سيئا للغاية"
شركاء "فرنسوا" في الرّحلة، "جانيس" و"ناهوم"، يؤكّدان أنّهما فرّا من الجنديّة. " كنّا جنوداً في إريتريا لمدة ثلاث سنوات. هناك، في إريتريا، يأتون فقط لأخذك لتصبح جندياً. بل، وبمجرد دخولك، تظل جندياً حتى تموت". "جانيس" عمره 17 سنة ويروي كيف يتم تجنيد أطفال عمرهم لا يتجاوز 12 سنة. فرّ "جانيس" مع "ناهوم" البالغ من العمر 25 عاماً من الجيش وقطعا رحلة صعبة إلى ليبيا ليكتشفا في النهاية أنهما استبدلا جحيما بآخر لا يقلّ شقاء.
يصف اللاجئون اوضاعهم بمراكز الايواء بالمزرية فحصص الغذاء المقدّمة لهم لا تلبي احتياجاتهم الحياتية وأماكن الاقامة غرف مكتظة لا تجد فيها مساحة صغيرة تكفي للاستلقاء، ومازادها سوء بنظرهم معاملة الحراس القائمين على المكان وشعورهم بأن حكوماتهم ومنظمات الإغاثة الدولية قد تخلت عنهم.
إدارة مُركز "بو رشادا" للاّجئين في مدينة غريان، أحد المخيّمات الرّسميّة العشرين لإيواء المهاجرين السرّيين في ليبيا، والتي سمحت لنا بمقابلة المحتجزين أكّدت على ضعف الإمكانيّات المتوفرة للمركز .
يقول "حسن التّرهوني"، حارس بمركز الاحتجاز: "في كثير من الأحيان، نطلق الرصاص في الهواء حتى نبقي المكان تحت السيطرة". مضيفا أن وجود 29 حارساً يتناوبون على امتداد اليوم لحفظ النظام، في مخيّم يضمّ قرابة 500 مهاجرا محتجزا، ليس بالأمر الهيّن.
وتابع "الترهوني" أنّهم يضطرّون وبشكل دوري لإرسال الكثير من اللاجئين إلى مراكز ايواء أخرى وأنّ الوضع يزداد صعوبة على الجميع بسبب ضعف الإمكانيّات والاوضاع العامة بالبلاد.
جدير بالذكر أن عدداً قليلاً من المهاجرين السريين تتم إعادتهم إلى أوطانهم بعد التنسيق مع حكوماتهم الأصلية من خلال برنامج العودة الطوعية الذي يديره فرع المنظمة الدولية للهجرة (IOM) - من تونس - وتبقى هذه العملية بطيئة وتتطلب مراحل طويلة لإنجازها ، فمنذ يوليو 2014 تمت إعادة 400 شخص فقط .
ويروي المهاجرون المحتجزون وكذلك موظّفو مخيّم غريان، أنّ الأسعار التي يتقاضاها مهربو المهاجرين غير الشرعيين تتراوح بين 400 دولارا و1500 دولارا. وأنّ المهاجرين يبقون أحيانا شهورا أو أعواما كعمّال أو محتجزين عند وصولهم إلى ليبيا، قبل أن يتمكّنوا من الهجرة، إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
وغالبا ما تكون مراكب الهجرة السرية غير مؤهلة للسفر أو يحمل عليها عدد أكبر بكثير من حمولتها المسموح بها، وهو ما يؤدي الى غرقها في أغلب الأحيان، لتهرع لها مراكب الانقاذ من جنوب أوروبا بعد تلقيها نداءات استغاثة قد تصدر أحيانا عن المهرّبين أنفسهم.
يروي الشّاب الإريتري فرانسوا وهو يحاول كفكفة دموعه كيفية العثور عليه بالقول:" منذ ثمانية أشهر عثروا على شاحنتنا صدفة على مشارف غريان وعادوا بنا الى هنا حيث لا مكان ننام فيه. منذ ذلك التّاريخ ونحن نعامل كمجرمين، لكننا لسنا كذلك، نحن بشر نريد ان نعيش بكرامة ونطعم عائلاتنا كغيرنا".
صوت الكثبان