الغد أول صحيفة عربية مالية

الدّولة اللّيبييّة عاجزة أمام الهجرة السرّيّة في الصّحراء

بواسطة kibaru

يمتد ما يُعرف بطريق التهريب في الصحراء الليبية على طول 600 كيلومترا من الحدود بين ليبيا والنيجر إلى مستوى بلدة سبها، عبر قلب الجنوب الليبي. ويُعرَف بـ"طريق القذافي"، وكان يخضع لحراسة مشدّدة من القوات الحدودية قبل 2011، ولكنّه تحوّل بعد سقوط القذافي إلى طريق يسلكه المهرّبون مع إفلات تام من العقاب. وتحاول القوى الأمنية الليبية من قبيلة التبو – قبيلة صحراوية شبه بدوية تعيش في ليبيا وتشاد والنيجر – السيطرة على المنطقة منذ تخلّى جنود معمر القذافي عن مواقعهم في العام 2011، لكن نفوذ هذه القوى محدود نظراً إلى أنها لا تتقاضى أجوراً وليست مدرّبة كما يجب.

 

تحت أشعة الشمس في منتصف النهار في الصحراء في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، حاول أحد المهرِّبين تصليح المحرّك المعطّل في شاحنته التي كانت قد غادرت النيجر قبل أربعة أيام محمّلةً بـ23 مهاجراً من أفريقيا جنوب الصحراء. كانت براميل المياه القليلة في الشاحنة – التي بالكاد تكفي لعبور الصحراء في رحلة تستغرق ثلاثة أيام – فارغة، وقد تم الاحتفاظ بكمية قليلة لتنظيف قطع المحرك، وكان جميع الأشخاص في الشاحنة يعانون من جفاف المياه من أجسامهم. كان المهاجرون الشباب في معظمهم من النيجر، إحدى الدول الأكثر فقراً في أفريقيا، وكانت أعمارهم تتراوح من 12 عاماً إلى أواخر العشرينات. قال جوزيف، 24 عاماً، وهو قادم من غانا إلى جانب مهاجر آخر: "نحن هنا منذ يومَين، منذ تعطّلت الشاحنة"، مضيفاً أنه كان ينوي في البداية البحث عن عمل في ليبيا، لكنه أقرّ بخجل بأنه يأمل بالوصول إلى أوروبا ذات يوم.

 

تتجنّب الشاحنات عادةً نقاط التفتيش، وتتنقّل متعرّجةً بين الطريق والممرات الصحراوية كي لا تكتشفها القوى الأمنية ذات الحضور المحدود على طول الطريق السريع. قال جنديٌّ متوجِّه إلى معبد تومو الحدودي: "لا يمكننا أن نفعل شيئاً لهؤلاء الأشخاص. لكن بما أننا رأيناهم، علينا أن نبلّغ نقطة التفتيش التالية عنهم"، مضيفاً: "قد يأتي أحدٌ من نقطة التفتيش لمساعدتهم أو اعتقالهم". لكن الكلام عن الاعتقال يبقى مجرد كلام ولا يسلك طريقه إلى التنفيذ. فالعمليات لمكافحة الهجرة غير الشرعية في جنوب ليبيا مجمّدة في العامَين الماضيين، بعد توقّف الدعم المالي المحدود مع انقسام المشهد السياسي في ليبيا إلى حكومتَين متنافستين. ففي ظل عدم توافر المال الكافي حتى لإطعام المعتقلين، مراكز الحجز في جنوب ليبيا، والتي بُني كل واحد منها في الأصل ليتّسع لمئات اللاجئين، فارغة في الوقت الراهن. 

 

بحسب رجب آجي محمد، رئيس دائرة مكافحة الهجرة غير الشرعية في بلدة مرزق الجنوبية، اعتقلت الدائرة قبل العام 2011، آلاف المهاجرين ونقلتهم إلى مراكز الحجز في سبها والقطرون، ومن هناك جرى ترحيل عدد كبير منهم. وقال في هذا الصدد: "منذ العام 2011، ليست هناك دولة تعمل كما يجب، والآن لا نحصل على الدعم لا من الحكومة في الغرب ولا من الحكومة في الشرق". وقد بات الموظفون مضطرين إلى استخدام أموالهم وسياراتهم الخاصة في العمل، وأصبحت الدائرة مجرّدة تماماً من السلطة والإمكانات. وقد علّق محمد قائلاً: "الحدود مشرّعة، وهذا هو الطريق الذي يسلكه المهاجرون باتجاه شمال ليبيا، لكننا لا نملك أية سلطة لردعهم الآن".

 

على غرار عناصر القوى الأمنية المنتشرين على "طريق القذافي"، غالبية المهرّبين هم من قبيلة التبو. فأبناء هذه القبيلة الذين عانوا من التهميش في عهد القذافي – ويعانون منه مجدداً منذ عودة الانقسامات السياسية والعرقية والعشائرية بعد انهيار الوحدة الليبية التي لم تعمّر طويلاً في العام 2014 – يزعمون أنهم يُضطرون إلى العمل في التهريب بسبب الفقر وغياب التعليم، حسب ناشط في المجتمع الأهلي من قبيلة التبو: "يرى كثرٌ في التهريب الخيار الوحيد لكسب رزقهم".

 

لكن نقل الأشخاص اليائسين عبر الصحراء هو مجرد واحدة من العمليات غير الشرعية التي يشهدها طريق الصحراء السريع. أبرز هذه النشاطات – والذي غالباً ما تقوم به عشائر أخرى في جنوب ليبيا – هو تهريب البضائع إلى خارج ليبيا. تنقل شاحنات ذات حمولة زائدة المواد الغذائية في شكل أساسي، ومجموعة من البضائع المحلية، من الفرش إلى الدراجات مروراً بالكراسي والعربات اليدوية. على الرغم من انهيار الاقتصاد الليبي وارتفاع الأسعار، تبقى هذه السلع أرخص منها في تشاد أو النيجر. في مقهى مؤقت عند جانب الطريق السريع، كان مهرِّبان يرتاحان على مقربة من شاحنتَيهما حيث كانت تتكدّس البضائع. كلاهما ينتميان إلى عشيرتَين نافذتين في الجنوب – ورفلة والقذاذفة – وكانا يتحدّثان عن الصحراء وكأنها بلدٌ قائم في ذاته. قال حسن: "بلادنا هي مثلّثٌ يمتدّ عبر ليبيا والنيجر وتشاد. منذ ولادتنا، نعتبر أن هذه البلدان الثلاثة هي موطننا. ولطالما عبرنا الصحراء، على امتداد 30 عاماً تقريباً، من سبها إلى النيجر وتشاد".

 

خلافاً للشاحنات التي تنقل المهاجرين، تمرّ الآليات المحمّلة بالبضائع عبر نقاط التفتيش، ويُلقي عدد كبير من سائقيها التحية على العناصر الأمنيين وكأنهم أعزّ الأصدقاء. قال أحدهم فيما كان يقف لالتقاط الصور عند حاجزٍ مؤقّت حالته مزرية: "أنا خير دليل على أن أبناء التبو ليسوا الوحيدين الذين يقومون بالتهريب. هذه بلادي، وأقوم بهذا العمل منذ أربعة عشر عاماً". كان مسؤولاً عن شاحنتَي "تويوتا" قديمتَين محمّلتَين بالبضائع التي كان يجلس عليها بضعة مهاجرين عائدين إلى ديارهم.

 

يصف العناصر العسكريون الموزَّعون على نقاط التفتيش القليلة بين حدود النيجر وسبها، هذه الشاحنات بـ"الآليات التجارية". يعترفون بأنه يُسمَح للشاحنات بأن تتنقّل بكل حرية، ملقين باللائمة على غياب الدعم المالي أو المادّي. قال آجي لوندي، قائد إحدى نقاط التفتيش في الصحراء على بعد مئتَي كيلومتر (135 ميلاً) من الحدود: "انظروا إلى هذه الآلية التي تمرّ من أمامنا، مباشرةً أمام عيوننا. لا يسعنا فعل شيء، لكن في مختلف الأحوال، تنقل في شكل أساسي مواد غذائية إلى البلدان المجاورة التي تعاني من الفقر الشديد". أضاف: "لو كانت هناك حكومة تعمل كما يجب، لسألنا ربما إذا كانت هذه الأنشطة مشروعة أم لا، لكن لا وجود لمثل هذه الحكومة، فماذا عسانا نفعل؟ من الأفضل أن تسلك هذه الشاحنات الطريق وتعبر نقاط التفتيش، وإلا ستعبر الصحراء حيث لا يمكن رصدها على الإطلاق". وزعم أنه يجري تتبّع كل الشاحنات التي تنطلق من سبها وتفتيش حمولتها في القطرون، لكن نقطة التفتيش في القطرون مغلقة منذ أشهر، لأن الحكومة لا تدفع أجور الموظفين منذ وقت طويل.

 

يقرّ قادة التبو في الجنوب بأن تهريب الأشخاص والمخدرات يتسبّب بحالة مستمرة من الخطورة وعدم الاستقرار في المنطقة الحدودية، لكنهم يقولون إنهم لو كانوا يحصلون على التمويل والدعم من الجهات الليبية أو الدولية، لتمكّنوا من فرض الأمن عند الحدود. قال رجب آجي محمد: "لا نحتاج حتى إلى نظام تحديد المواقع (جي بي إس) للعمل هنا، لأننا نعرف المكان، لكننا نحتاج إلى الدعم"، مضيفاً: "نحتاج إلى آليات ومعدّات وأموال لإطلاق عملياتنا من جديد كي نوقف الهجرة غير الشرعية ونضبط أمن الحدود". حتى ذلك الوقت، يقول عناصر التبو المنتشرون عند الحدود والموزَّعون على نقاط التفتيش – الذين يعملون فعلياً كمتطوّعين – إنهم سيستمرون في إنجاز المهام الأمنية المحدودة التي يملكون القدرة على القيام بها. قال لوندي وهو يشير إلى شاحنة مهترئة في وضع أسوأ بكثير من الشاحنات التي يستخدمها مهرِّبو الأشخاص الذين يعمدون بصورة مستمرة إلى تغيير آلياتهم لتحمُّل العوامل المناخية القاسية في الصحراء: "لو كنّا نتقاضى أجورنا، لما كنّا عالقين في هذا الحاجز المتداعي مع سيارات من دون أضواء، لأننا لا نملك حتى المال لاستبدال المصابيح". وذكر قائمة بالأشياء التي يحتاج إليها رجاله للقيام بمهمتهم: آليات وأسلحة وذخائر وبنزين، مضيفاً: "النفط موجود تحت الأرض، تحت أقدامنا، لكننا لا نملك كمية كافية من البنزين للقيام بعملنا". إلا أنه أردف: "لكننا سنبقى هنا، ونفعل كل ما بوسعنا لحماية بلادنا. حتى لو ظلّت البلاد من دون حكومة طوال مئة عام، سنبقى هنا. نحن مستعدّون للموت من أجل ليبيا".

 

dune voices