قبل 7 قرون من الآن، وتحديدا في القرن الرابع عشر، كان ملك إمبراطورية مالي (تشمل غانا حينها)، “مانسا موسى الأوّل”، يسير في موكب ضخم يضمّ أكثر من 60 ألف رجل، محاطا بما لا يقلّ عن 12 ألفا من العبيد والخدم، متوجّها لأداء مناسك الحجّ في مكة المكرّمة.. موكب ملكي من طراز رفيع وبهرجة وثراء تنطق بهما جميع التفاصيل المحيطة بذلك الإمبراطور المصنّف ضمن أغنى أغنياء البشرية على مرّ العصور.
معطيات تاريخية قد تثير الإستغراب لما تصنعه من مفارقة بين مالي اليوم، وبين مالي الغنية في القرن الرابع عشر.. فروع تخلق تضاربا في الوصف، بيد أنّ الأصل يظلّ واحدا، وهو أنّ هذا البلد يتمتّع بثروات معدنية منذ الأزل، غير أنّ استغلال واستثمار تلك الكنوز المدفونة في أعماقه ومدى استفادة سكانه من عائداتها يبقى الجزء الأكثر غموضا في القصة بأكملها.
فالصحراء المالية الزاخرة بشتّى أنواع الثروات المنجمية والمعدنية، وخصوصا الذهب، أضحت حلبة صراع خفيّ بين عمالقة التنقيب في العالم. ودائع ضخمة كان من البديهي أن تثير أطماع أبرز الفاعلين في المجال من كبرى الشركات العالمية، فكان أن تحوّل هذا البلد الواقع في غرب أفريقيا، إلى وجهة، بل إلى حلبة صراع بين تلك القوى الساعية إلى تأمين حصّتها من تلك الثروات.
وبحسب بيانات السلطات في مالي، فإنّ البلاد تحتلّ المركز الثالث أفريقياً في إنتاج الذهب، بعد كلّ من غانا وجنوب أفريقيا، بـ50 طنا في 2015، لافتة إلى أنّ 46 طنا من بينها يقع إنتاجها عبر الطرق التصنيعية، والـ4 المتبقية من خلال الوسائل التقليدية المنتشرة بكثرة في البلاد.
إنتاج ضخم ينتظر، بحسب المصدر نفسه، أن يبلغ عتبة الـ60 طنا في 2017؛ نظرا للودائع الجديدة المكتشفة من هذا المعدن الثمين في البلاد. أرقام وتقديرات تفسّر التهافت اللافت لكبرى الشركات العالمية الناشطة في مجال التنقيب على مالي، والقادمة من شتى أنحاء العالم، بينها جنوب أفريقيا وبريطانيا وأستراليا وكندا.
أرقام ترشّح هذا البلد لأن يصبح سلّة الذهب في القارة السمراء.. مركز متقدّم غير أنه يصنع مفارقة بالنسبة لبلد يأتي في المرتبة 44 أفريقيا في تقرير التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2015. تضارب لا ينفي حقيقة أنّ مالي زاخرة بالثروات، وخصوصا في منطقة “كايس”، جنوبي غربي البلاد؛ حيث توجد أبرز ومعظم المواقع المنجمية.
“الفوسايني سانغاري”، الأمين العام لمنظمة “انشروا ما تدفعون” غير الحكومية (شبكة دولية تضم منظمات من المجتمع الدولي)، قال إنّ “مالي أصبحت بلدا منجميا باحتلاله المركز الـ3 في انتاج الذهب على الصعيد القاري، والـ 11 عالميا”، مضيفا أنّ “منطقة كايس تعتبر حجر الأساس ومحور نشاط استغلال هذا المعدن الثمين”.
الأمين العام لهذه المنظمة، التي نشرت مؤخرا تقريرا حول شركات التنقيب عن المعادن في مالي، لفت في ذات السياق، استنادا إلى أحدث بيانات البنك الدولي، إلى المساهمة الفعالة للمعدن الثمين في الإقتصاد المحلّي لمالي؛ حيث “يوفّر الذهب أكثر من 25% من عائدات الضرائب، و70% من الإيرادات المتأتّية من الصادرات، ويساهم بـ7% من الناتج المحلّي الإجمالي”، والذي بلغ الـ 12.07 مليار دولار في 2007 (حسب أحدث البيانات المتوفرة).
كمّيات كبيرة من الذهب موجودة بسخاء في باطن الأراضي في مالي، وتفسّر تهافت شركات التنقيب عليها.. لائحة طويلة تضمّ عمالقة التنقيب القادمين من جنوب أفريقيا وبريطانيا وأستراليا وكندا.
فعلى الحدود مع السكان، تنشط شركة “لولو” التابعة للمجمّع البريطاني “راند غولد ريزروس”، منذ 2005. وبحسب توقعات الشركة، فإنّ موقع الذهب الذي تستغلّه منذ ذلك التاريخ سيستمر في إنتاج المعدن الثمين حتى العام 2029، مع إمكانية إكتشاف ودائع أخرى من الذهب، بحسب ما وقع التنصيص عليه في ترخيص الإستغلال المسند إليها.
نائب مديرها، إبراهيم سيبي، تحدّث لـ”الأناضول” عن المجمّع الصناعي الحديث الذي أنشأته الشركة في موقع التنقيب، مشيرا إلى أنّ “المصنع يعمل بفضل المولّدات الضخمة ذات الطاقة الهائلة التي تمكّننا من العمل على مدار اليوم أي لمدة 24 ساعة”.
أما على الأرض، فالمشهد حري بالمراقبة: ناقلات صغيرة تحمل أكياسا معبأة بالرمل والحجارة من موقع التنقيب عن الذهب إلى المصنع، وهناك يقع إفراغها في طاحونات ضخمة، تقوم بتحويل ذلك الخليط غير المتجانس إلى عجينة ينتهي بها الأمر في خزانات ذات سعة كبيرة.
خطوات تسبق مرحلة استخراج الذهب. “نستخدم اثنين من التقنيات خلال هذه المرحلة”، يوضح “سيبي”، “الأولى تسمّى قياس الثقل النوعي، وهي شبيهة إلى حدّ ما بالطريقة التي يستخدمها عمّال المناجم التقليدية، حيث نستعمل غربالا ضخما لفرز الذهب، في حين تسمّى الطريقة الثانية السيانيد (أملاح حمض سيانيد الهيدروجين)، وتتمثّل في إضافة السيانيد والجير والأوكسجين لفصل الذهب عن بقية الخليط”.
أساليب مختلفة أضاف “سيبي” أنها تشكّل المراحل الروتينية للحصول على الذهب، بما أنّ المعدن الخام المستخرج من مختلف مواقع التنقيب عادة ما يحمل معه مواد كيميائية أخرى ينبغي فصلها عنه، ولذلك نضعه في محلول السيانيد، وهكذا، فإنّ “الذهب الموجود سيترسّب وسيتركّز عبر التفاعل مع الكربون المنشط، قبل الشروع في جمع هذا الكربون ونستخرج منه معادلة مخصّبة بالأيونات الذهبية، نخضعها إلى ضغط كهربائي يمكّن من استعادة الذهب المعدني، ومن ثمّة صهره وتشكيله في سبائك”.
وبحسب المصدر نفسه، فإنّ المصنع يعالج شهريا، وعلى هذه الشاكلة، ما لا يقلّ عن 385 ألف طن من المعدن الخام، أي نحو 4.6 مليون طن في 2015. وفي المجموع، باعت الشركة 630 ألف و627 أوقية (أونصة/ إحدى وحدات قياس الكتلة/ ما يعادل 31.10 غرامات) من الذهب بقيمة 724.2 مليون دولار، بكلفة انتاج قدّرت بـ 674 دولارا للأوقية الواحدة. تكلفة تعدّ منخفضة، حسب “سيبي”، والذي أكّد أنّ قطاع الذهب يعتبر الأكثر مردودية في العالم، والأكثر قدرة على مقاومة انخفاض أسعار الذهب، والتي تراجعت من ألف و900 دولار للأونصة الواحدة في سبتمبر/أيلول 2011 إلى ألف و50 أواخر العام الماضي.
ميزات كان من البديهي أن تضع مالي في مرمى أطماع الشركات العالمية الناشطة في مجال التنقيب واستغلال الذهب.
وحسب تقارير صحفية محلية، فإنّه من المنتظر أن تفتتح شركة كندية جديدة مختصة في التنقيب عن المعادن، تسمّى “بي.2 غولد”، في يوليو/تموز المقبل، أنشطتها في منطقة “كايس” بمالي.
قطاع استطاع أن يؤمّن استمرار أنشطته رغم الأوضاع الأمنية السائدة في البلاد، والناجمة عن تواتر الهجمات التي تقودها المجموعات المسلحة في الشمال على وجه الخصوص. فالذهب يبدو وكأنّه يقف في خطّ التقاطع بين جميع الأحداث التي تعاني منها البلاد، ومع ذلك، استطاع المحافظة على معادلة غير مهتزة، غير أنّ حتى الواجهة المستقرة للقطاع لا ينبغي، بأي حال، حجب أخرى بملامح قاتمة.
منظمة “هيومن رايتس ووتش”، كشفت أنّ “مواقع التنقيب شغّلت، في 2013، وبشكل غير قانوني، ما لا يقلّ عن 20 ألف طفل، في ظروف قاسية وبالغة الخطورة”، رغم أن القانون الكونغولي يحظر تشغيل الأطفال دون سنّ الـ18 في المناجم.
من جانبها، تعهّدت الحكومة المالية، في تصريحات متفرّقة لعدد من أعضائها، بمكافحة مثل هذه التجاوزات بمختلف الوسائل القانونية المتاحة لها.
نعمة هي تلك الكميات الوفيرة من الذهب الكامن في أعماق الصحراء المالية.. هذا ما قد توحي به الأرقام، لكن الإحداثيات على الأرض تبدو منفصلة عن المعطيات النظرية، على الأقل في ما يتعلّق بالوضع الراهن في الشمال، والذي يعتبره مراقبون نتاجا لصراع دامي من أجل السيطرة على ثروات البلاد، ما يعني، بحسب مختصين، أنّ الذهب والثروات عموما تقف فعلا في خط التماس بين الإرهاب والتهريب، وهذا، في نهاية المطاف، ما قد يجعله نقمة على سكان البلاد.
المصدر: الأناضول