محمد محمود أبو المعالي/كاتب وصحفي موريتاني
شكلت القمة الأفريقية/الفرنسية التي عُقدت في العاصمة المالية باماكو يوم السبت 14 يناير/كانون الثاني الجاري "حَجّة وداعٍ" للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى أفريقيا، ومناسبة يستعرض فيها مع القادة الأفارقة حصيلة مأموريته الرئاسية من العمل المشترك بين فرنساوالقارة السمراء.
ومن أهم مجالات هذا العمل المشترك: محاربة الإرهاب، وترسيخ الديمقراطية، وتعزيز التنمية، وهو الثالوث الذي شكل خلال العقود الماضية أهم كوابح الحلم الأفريقي التوّاق إلى الاستقرار والتقدم والازدهار.
وجاء اختيار العاصمة المالية ليبعث بأكثر من رسالة فرنسية إلى أفريقيا، حيث تشكل باماكو إحدى أبرز عواصم النفوذ الفرنسية فيها، بل تكاد تكون العاصمة الأفريقية التي تعيش تحت السيادة الفرنسية اليوم، بحكم حمايتها من طرف القوات الفرنسية الموجودة على الأرض، والتي سارعت إلى مالي مطلع عام 2013 لمنع سقوط باماكو في أيدي الحركات الجهادية.
ولا تزال هذه القوات تلاحق تلك الجماعات في تخوم الأراضي المالية وجبالها، وتقاتلها في حرب استنزاف لم يلُح في الأفق القريب حدٌّ لنهايتها، كما تعتبر مالي أحد البلدان الأفريقية الأقل استقرارا، حيث يبلغ التوتر العرقي والتمرد الانفصالي ذروتهما في وسط وشمال البلاد.
هذا إضافة إلى النشاط المكثف لعصابات تهريب المخدرات، والتمركز الكبير للحركات الجهادية فيها، وغياب سيطرة السلطات المركزية عن أجزاء كبيرة من أراضي الجمهورية، فضلا عن كونها تشكل محكًّا حقيقا تمكن من خلاله مساءلة الدور الفرنسي في القارة الأفريقية، عسكريا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا.
الإرهاب عنوان المرحلة
في مجال محاربة الإرهاب نشطت فرنسا خلال فترة حكم الرئيس هولاند في القارة الأفريقية، وكانت الصحراء الكبرى -وفي وسطها جمهورية مالي- مسرحا لأهم المواجهات الفرنسية مع الجماعات المصنفة إرهابية، حيث يتمركز المئات من القوات الفرنسية في قواعد عسكرية بمدن وسط وشمال البلاد.
"رغم التدخل العسكري الفرنسي في مالي فإن الاستقرار لم يعرف طريقه إلى المنطقة حتى الآن، والحكومة المالية لا تزال غائبة عن أهم مناطق الشمال التي يسيطر عليها المتمردون، أما الحركات الجهادية فقد كانت تلك الفترة كافية لها لتتكيف مع قواعد الاشتباك الجديدة"
تلك القوات التي أعلنت عشية وصولها إلى مالي أن هدفها على المدى القصير هو القضاء على الجماعات الجهادية وإعادة السلطة المركزية إلى سائر الأراضي المالية، لكن أربع سنوات من المواجهات بين الفرنسيين -مدعومين بقوات أفريقية ودولية- والجماعات الجهادية، كانت أبرز نتائجها تحرير كبريات المدن من قبضة الجهاديين، وقتل عدد من قادتهم والعشرات من عناصرهم.
غير أن الاستقرار لم يعرف طريقه إلى المنطقة حتى الآن، والحكومة المالية لا تزال غائبة عن أهم مناطق الشمال التي يسيطر عليها المتمردون، أما الحركات الجهادية فقد كانت تلك الفترة كافية لها لتتكيف معقواعد الاشتباك الجديدة، وتعيد تشكيل وتوزيع سراياها وكتائبها على الأرض.
حيث ظهرت -خلال هذه الفترة- تنظيمات لم تكن معروفة من قبل كتنظيم "المرابطون" التابع للقاعدة، وجماعة أبو الوليد الصحراوي التابعةلتنظيم الدولة الإسلامية، واختفت جماعات أخرى أو أعادت تدوير نفسها مثل "جماعة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا"، فضلا عن ظهور جماعة "كتائب ماسينا" التي أسسها مقاتلون من قومية الفُلّان الأفريقية المنتشرة وسط البلاد، في تطور عرقي وجغرافي خطير يهدد البنية الديمغرافية لدولة مالي ومنطقة غرب أفريقيا عموما.
كما امتدت المواجهة العسكرية خلال هذه الفترة من شمال البلاد إلى وسطها، وتحولت ولايات الوسط والتجمعات السكانية جنوب نهرالنيجر إلى بؤرة لهجمات وعمليات نفذها مقاتلو الفُلّان واستهدفت السيطرة على بعض المدن مؤقتا.
وفي رسالة واضحة للقادة الأفارقة والرئيس هولاند مفادها أننا كنا هنا وما زلنا؛ اختارت الجماعات الجهادية موعد افتتاح القمة في باماكو لتنفذ بالتزامن معه هجوما بالصواريخ استهدف القوات الفرنسية المرابطة في مطار تمبكتو شمالي البلاد، بينما اختارت ردا مدويا ودمويا على بيان القمة الداعي لمزيد من التنسيق في محاربة الإرهاب.
حيث نفذت هجوما انتحاريا على قاعدة عسكرية في مدينة غاو خلّف قرابة 70 قتيلا وعشرات الجرحى في صفوف القوات المشتركة بين الحكومة المالية والحركات المتمردة، والتي كان مقررا أن تنطلق في دوريات لملاحقة المقاتلين الجهاديين. وقد وقع الهجوم -وهو الأعنف من نوعه منذ اندلاع الحرب بداية عام 2013- على بعد مئات الأمتار من مطار المدينة الذي زاره الرئيس الفرنسي قبل أيام لتفقد جنوده المرابطين هناك.
اتفاق مالي المعطَّل
أما سياسيا فقد فشلت فرنسا في إقناع المتمردين في إقليم أزواد -المطالبين باستقلال الشمال- بمغادرة بعض المدن الكبرى (مثل كيدالوأغلهوك ومنيكا والخليل وأنفيف) والسماح للحكومة المالية بالعودة إليها، وذلك انتظارا للتوصل إلى حل نهائي لأزمة الشمال، التي كان يُفترض أن تُحلّ في مفاوضات الجزائر بين الحكومة المالية والحركات الأزوادية سنة 2015.
تلك المفاوضات التي انتهت بتوقيع اتفاق مصالحة قبل سنة ونيف لم يعرف حتى الآن طريقه إلى التنفيذ، وتتبادل الأطراف الاتهامات بالمسؤولية عن تعثره، في وقت تقف فيه فرنسا عاجزة عن الضغط على الأطراف للمضي قدما في تنفيذ بنوده.
وإلى أن يقود الاتفاق المذكور إلى حل للصراع، وينجح الفرنسيون في طرد الجهاديين من البلاد، وهي كلها أحلام لا تزال بعيدة المنال؛ تبقى مشاريع التنمية ومحاربة الفقر وتعزيز المنظومة الصحية والتعليمية، معلقةً تنتظر الاستقرار والهدوء.
"سياسيا فشلت فرنسا في إقناع المتمردين بإقليم أزواد -المطالبين باستقلال الشمال- بمغادرة بعض المدن الكبرى (مثل كيدال وأغلهوك ومنيكا والخليل وأنفيف) والسماح للحكومة المالية بالعودة إليها، وذلك انتظارا للتوصل إلى حل نهائي لأزمة الشمال"
كما تُمَكّن القراءة في تلك الحصيلة من استنتاج فشل فرنسا خلال حقبة هولاند في إبعاد خطر الجهاديين عن مناجم اليورانيوم في إقليمي أغاديس وآرليت بشمال النيجر المجاورة لمالي، وهي المناجم التي تحتكرها شركة "أريفا" الفرنسية، وتوفر عن طريقها أكثر من ثلث احتياجات المفاعلات النووية الفرنسية لإنتاج الطاقة.
فالنيجر لا تزال عرضة للهجمات والعمليات المسلحة وعمليات الاختطاف التي تنفذها تلك الجماعات، بل توسع التهديد من شمالي وغربي البلاد -عن طريق الجماعات الجهادية في الصحراء الكبرى- ليمتد إلى جنوبيها، حيث برز تهديد جهادي جديد في الجنوب ممثلا في هجمات متكررة وعنيفة، تقوم بها جماعة "بوكو حرام" في إقليميْ زيندر وديفا على الحدود مع نيجريا وتشاد.
وتتخذ من غابة سامبيسا في شمالي نيجريا معقلا لها تهدد منه الاستقرار والسلم في نيجيريا وتشاد والكامرون والنيجر، فتعطي للصراع أبعادا إثنية وقبلية وطائفية تهدد بتمدده وتجعله أكثر تعقيدا من مجرد صراع مع جماعة متطرفة، حيث تحسب جماعة "بوكو حرام" على قبائل الكانوري المسلمة، في مواجهة باقي القبائل الأخرى كالهوسا والفلاتة واليوروبا التي تنتشر الصوفية بين مسلميها، ويعتنق بعضها المسيحية.
كما توسع "الخطر الجهادي" شرقا وشمالا ليصل إلى ليبيا التي تحول جنوبيها -حسب تقارير استخباراتية غربية- إلى قاعدة خلفية للجهاديين في الصحراء الكبرى، الأمر الذي استدعى من الفرنسيين إقامة قاعدة عسكرية ثابتة في ماداما بأقصى شمالي النيجر، كل ذلك في محاولة لتأمين مناجم اليورانيوم التي باتت مطوّقة بـ"حزام جهادي": من الغرب (مالي)، ومن الشمال (ليبيا)، ومن الجنوب (جنوبي النيجر).
بؤر توتر أخرى
وإضافة إلى غوص الفرنسيين في مستنقع الشمال المالي والصحراء الكبرى؛ يغادر هولاند أفريقيا وفي سجله إخفاق آخر يتعلق بجمهورية وسط أفريقيا، حيث فشلت القوات الفرنسية المنتشرة هناك في تأمين آلاف المسلمين الذي قتِلوا في عمليات إبادة نفذتها مليشيات "آنتي بالاكا" المسيحية، وسط اتهامات تعززها شواهد من الأدلة على تورط الفرنسيين في نزع سلاح مليشيات "السيليكا" المسلمة، وإطلاق أيدي المليشيات المسيحية لتعيث في المسلمين قتلا وتنكيلا واغتصابا وتهجيرا.
"يمكن القول إن قمة باماكو الأفريقية/الفرنسية انفض سامرها عن بيانات ليست أكثر حزما ولا أوضح هدفا من سابقاتها، وودّعت أفريقيا الرئيس الفرنسي هولاند كما جاءها أول مرة، وهي ترسف في أغلال التخلف والفقر والحروب الأهلية والاضطرابات السياسية"
وفي ساحل العاج؛ يغادر هولاند أفريقيا وهو يتابع بقلق تفكك البنية الهشة التي أقامها سلفه نيكولا ساركوزي عندما فرض بالقوة تنصيب الرئيس الحسن وتارا سنة 2011، بعد رفض الرئيس المنتهية ولايته لوران غباغبو الاعتراف بالهزيمة، حيث أقامت فرنسا نظاما يدين بالولاء المطلق لها ويحمي مصالحها الاستثمارية هناك.
أما اليوم فتقف ساحل العاجل على فوهة بركان، بعد تجدد حالات التمرد في أوساط الجيش وتعدد مراكزها، على خلفية الأوضاع المتردية للمؤسسة العسكرية، وهو حراك شبيه بما حصل في مالي سنة 2012، إذ كانت بداية انقلاب النقيب أمادو سونغو -الذي أطاح بالرئيس السابق أمادو توماني توري- مجرد تمرد عسكري احتجاجي على أوضاع الجيش المتردية، وكذلك وصل النقيب موسى داديس كامرا إلى السلطة في غينيا سنة 2008 بعد قيادته تمردا احتجاجيا على أوضاع الجنود.
أما في غامبيا؛ فالمجهول يتربص بمصير البلاد بين يحيى جامي الرئيس المتعنت الذي هزم في الانتخابات وما زال يرفض الخضوع لقرار الناخبين وسماع صوت الديمقراطية، والمجتمع الدولي والأفريقي المتوثبين للانقضاض عليه واقتلاعه بالقوة من الحكم.
وتغذي ذلك توترات تاريخية وحاضرة في علاقة الرجل ببعض دول جوار بلاده، خصوصا السنغال التي هي أكثر دول المنطقة حماسا للتدخل العسكري في غامبيا. وبين الأمرين يعيش الغامبيون أصعب لحظاتهم ويتوجسون خيفة من انفلات أمني قد يعصف بالبلاد وربما يشمل دول الجوار.
ختاما.. وباختصار؛ يمكن القول إنقمة باماكو الأفريقية/الفرنسية انفض سامرها عن بيانات ليست أكثر حزما ولا أوضح هدفا من سابقاتها، وودّعت أفريقيا الرئيس الفرنسي هولاند كما جاءها أول مرة، وهي ترسف في أغلال التخلف والفقر والحروب الأهلية والاضطرابات السياسية.
تتناوشها عوامل عديدة، من أهمها: النهب المستمر لخيرتها خارجيا (مثال اليورانيوم النيجري الذي تستحوذ عليه فرنسا) وداخليا (أنظمة دكتاتورية فاسدة)، وتفاقم الصراعات العرقية والقبلية التي اختلطت أحيانا بأبعاد دينية وطائفية، زادت الأوضاع سوءا على سوء، وأبعدت الحلم الأفريقي بالديمقراطية والتقدم والازدهار مسافات زمنية طويلة حتى قارب حد التلاشي أو القنوط.
المصدر/الجزيرة