ما شاهدته في اليوم و أنا أقضي شطراَ من الليل في إتمام ما ينسى أو تلزم رؤيته بالليل وتعليق المفكرات وكتابة الروايات وكنت في كل لحظة متخوفاً من فوات الفطر حتى لقد صدق قول بديع الزمان ..
إسكندرية داري لو قر فيها قراري
لكن بالشام ليلي وبالعراق نهاري
او ما قاله عبدالله بن أحمد بن الحرث شاعر ابن عباد ..
يوما بحزوى يوما بالعقيق ... وبالعذيب يوما ويوما بالخليصاء
وتارة تنتحي نجدا وآوانه ... شعب العقيق وطورى قصر تيماء
قد كان من أقصر ما يكون حتى لقد كنت أسعى في توفير الزمن وتكثيره بإتعاب نفسي وحرمانها من الراحه فأفضل السفر ليلاً في أغلب الأحيان إلا إذا لم يكن ذلك بالإمكان ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : ( عليكم بالدلجة ) فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار ، ولكن زمان مقال كما أنه لكل مقال مجال .
القرآن الكريم والسنة النبوية يحثان على الرحلة من دار الإقامة إلى غيرها من الديار، قال تعالى : ( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) ( أولم يسيروا في الأرض ) ( قل سيروا في الأرض ) إلى غير ذلك من الآيات وعمل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابه رضي الله عنهم من بعده اكمل واجلى في الاستدلال .
الحكمة هي تذكر حال السابقين والاعتبار بما كان لهم في زمانهم ، وما انتهى إليه امرهم من عمار او دمار وليس هذا الإ ليزداد الفكر تنوراً ، والعقل تبصراً .
وبما أني من عشاق السفر والترحال بين الدول ، فالسفر دائما يجعلني أطلع على ثقافات جديدة لن استطيع الوصول إليها إلا بالمغامرة خاصةً في منطقة لا يزال الوضع الأمني فيها غير مستقر ، لذلك قررت المغامرة ، والذهاب إلى الوطن الذي انتمي إليه على حسب التقسيم الجغرافي ، والمفروض علينا ، وعلي أن أرى كيف كانت طبيعة الحال ، وكيف كانوا يعيشون فيها الأجداد ، وأين كانوا في ذلك الزمان قبل رحيلهم إلى شتى الأوطان .
قد حان وقت الرحيل مع فجر الاثنين في تمام الساعه 7:00 صباحاً متوجهين عكس حركة الشمس وهي تعلن فيه بداية يوم جديد وكأنها تطبع على جبين السماء قبلة الحياة لتستيقظ الارض من نومها بعد ليل طويل ، غادرنا العاصمة نواكشوط حتى بدأت أرى على امتداد كيلو مترات الرمال الجرداء القاحلة ، وأرض ، ورمال ، وحجارة ، وصخور يترسم فيها الطريق المستقيم الذي تسلكه السيارات والشاحنات والقوافل العابرة مثل ثلم خطه ظفر .
فكان الطريق طويل جدا بينما تجاوزنا اثنتا عشرة ساعة منذ انطلاقنا من نواكشوط من بعد شروق الشمس حتى قرب غروبها ولازلنا لم نصل الحدود المورتانية والمالية ، وذلك بسبب الوقوف المتكرر لأداء الصلوات وقضاء حوائجنا لبعض الوقت ، إلا ان السائق كان سريعا لا يحب الانتظار ومتهورا بالقيادة جدا ، لكن كان خفيف الظل ويحب المزاح وقد كانت الإبتسامة لاتفارقه ، لقد طلبت منه بإن اقوم بتغير مقعدي إلى الخلف لكي اجعل مساحة كافية لتلك المرأة الكبيرة بالسن ان تستلقى وتنام براحتها ، قال لي بصوتٍ عالي وهو يمازحني : أنت تجلس بجوار تلك المرأة الحسناء فلماذا تريد التغير ! فابتسمت تلك المرأة واكتسى وجهها اثار الخجل حتى انها رفضت أن أقوم بتغير مقعدي وأن الامر عادياً بالنسبة لها ، استمرينا في تبادل الحديث تارةً والضحك والمزاح تارةً مع السائق بحكم قرب مقاعدنا منه ، حتى وصلنا إلى إحدى الأماكن لأخذ قسط من الراحة وذلك بقرب الحدود المورتانية والمالية ، وجدنا جموعاً غفيرة من الخلق منهم الذاهبون ومنهم القادمون ، ماقد لاحظته أثناء وصولنا بإن هناك من يقود سيارة من الحرب العالميه وهناك من يقود سيارة حديثة وفخمة واخر يركب بغلا أو حماراً وآخرين يقودون العربة وإمرأة تحمل فوق رأسها رزمة من الأشياء ، وبائعوا الطعام ينادون بصوت عالي من حولهم حتى يتمكنوا من بيع الطعام وايضاً هناك من يصنع الشاي على الجمر ليتمكن من بيعه على الزبائن من حوله ، لقد كان المشهد جميلاً ومحزناً في الوقت ذاته، محزناً عندما ترى شيء لم تكن تراه من قبل في تلك الدول المتقدمه عنها بكثير .
أخذت أفكر كيف كانت الحياة في الماضي قبل خمسة مائه عام خلت أو أقل من ذلك ، كان عالماً آخر حيث كانت جميع جوانب الحياة سواء جانب التعليم أو الاقتصاد أو العناية الصحية وغيرها من جوانب الحياة مختلفة تماما عما هي عليه الآن .
والتطور قد مس كل تلك الجوانب عبر السنين وحسن جودة الحياة للافراد العاديين الذين لم يكونوا ملوكاً أو نبلاء ، فقد كان حينذاك التنقل السائد لعامة الشعب هو مشياً بالأقدام حتى لو كان المكان بعيداً ، أما الملوك والنبلاء و الأغنياء فقد كانوا يتنقلون بركوب الحصان أو عربة مغلقة تجرها أحصنة ، فكانت الرحلات في زمانهم تأخذ وقتاً طويلاً مقارنة بعصرنا الحالي ، وكان يعد التنقل خطراً أكثر مما نحن عليه فكانت الطرق مقفرة وغير واضحة و اذا اصيب أو مرض أحد الأشخاص وهو بالطريق فقد كان من الصعب طلب المساعدة .
وبعد ما استغرقت وقتاً طويلاً في التفكير حتى أدركت نفسي مستيقض من النوم ، وحينها لا ادري ان كنت أحلم أم أندمج الحلم مع التفكير ، أو ذلك من التعب والارهاق من أثر السفر ، لم اكن اعلم بأننا سوف نستغرق كل ذلك الوقت في دولة واحده في وسط صحراء تبعد مئات الكيلو مترات ، وأن نمضي ليلةً كاملة حتى نصل حدود الدولة المجاورة ، وحين وصلنا الى حدود مالي ، في منتصف الليل ، وكان علينا أن نبقى حتى الصباح ليسمحوا لنا حرس الحدود بالخروج من الاراضي المورتانية .
توقف سائق الحافلة في احدى الاماكن فانتشرنا في الأرض وكان من الافضل المبيت في احدى الخيام الجاهزة أو بين الصخور حتى الصباح ، وكانت الاجواء مليئة بالرياح والاتربة ، ولفتّنا هبة رياح شديدة مثل كلب يشم غريبا ، في ذلك الوقت قاموا افراد الرحله يمرحون وراء الصخور و في الخيام ثم اختار كل واحد منهم المكان المناسب له ، ليضع فيه غرفته المؤقته التي كانت عبارة عن حقيبة الظهر وكيس النوم ، وقمت باختيار بقعة رملية لها شكل سرير ، ونظفت المكان جيداً وأزلت أشواك الأكاسيا ، والحصى ، وبعض النفايات ، إلّا أن المكان كان يقلقني جدا ، وحيث أني كنت افضل السير ولكن ذلك الامر مُحتمٌ وواجب عليّ، كان الظلام بتلك الليلة يمحو كل شي ، التضاريس والمسافات والأشياء ، وكنت أخشى الحيوانات والزواحف الضاره واخاف بالأخص العقارب الذي قد يعشش في جوف حذائي في الليل ، ولكن تعوذت بالله وقرأت الاذكر وكنت متوكل عليه ، ثم غادرني الاضطراب و شعرت بالتحسن حتى نمت الى أن دغدغة رائحة الفجر حاسة الشم لديّ واستقيضت من النوم ، وبعد أداء صلاة الفجر ، حتى اشرقت الشمس علينا في يومنا الثاني من الرحله ، ثم انطلاقنا الى الحدود للخروج من موريتانيا والدخول الى مالي .
بعد دخولنا الى الارضي المالية :
على امتداد الطريق كنت لا أرى إلّا اللون الأحمر على امتداد البصر ، والغبار أحمر ، الارض حمراء ، و البيوت الطينية المتناثرة على جانبيّ الطريق حمراء ، فكل ما تراه احمر في احمر ، وكان كلما توغلنا نحو باماكو كلما ازدادت الخضرة بناظري ، وكثرت الاشجار ، والاعشاب الصفراء ،وكان الطقس شديد الحرارة ، وقد اشتدت حرارة الجو ، ولطخت بقع العرق قميصي تحت إبطي ، وخاصرتي ، وفوق معدتي ، وكان بنطالي يضغط على فخذي ويحرق ما بين ساقي ، وتحولت بشرتي الى الاحمر من شدت الحرارة ، وخمنت بأن ملابسي غير ملائمة ، وبدأت أحسد الرجال المرتدين الجلبات و ملابسهم الخفيفة ، الذين كنت اصادفهم ، كانوا أحرار بالحركة شعورهم بالحرارة أقلّ مني غير مقيدين تحت هذه الملابس المعذبة ، لكل جزء من الجسم كانوا يتجولون أحرار نظفين يا لها من نعمة تستحيل علي ، انا المتصبب عرقاً والغبار عالق بجلدي ، كيف لهم أن يظلوا هكذا ؟
حتى أقدامهم داخل صنادلهم المفتوحة تبقى سليمة .
الوصول إلى باماكو :
بعد رحلة طويلة جداً إستغرقت يومين في الطريق من نواكشوط إلى
باماكو ، وهي عاصمة جمهورية مالي وكبرى مدنها ، وتقع في الجزء الجنوبي الغربي من البلاد على الضفة الغربية من نهر النيجر ويبدأ تاريخها من أواسط القرن التاسع عشر ، وتعد المدينة من المدن التجارية الهامة ، وكلمة باماكو في لغة قبائل البامبارا تعني ظهر التمساح ، وبعد دخولنا العاصمة كانت الشوارع خالية والمحلات مغلقة ، و الظلام يمحو تلك المدينة بعد منتصف الليل ، و الحركة فيها كانت نادرة قليل ما ترى شخص يتجول فيها ، فقط عند وصولنا محطة الحافلات كان المكان مكتض بالمسافرين ، اغلبهم وافدون على المدينة مثلنا ، منتشرون عند باب المحطة ، وعلى جانب الطريق باعة متجولون يفرشون بضائعهم على الأرض ، وسائقين سيارات الأجرة ينادون بأعلى أصواتهم ، وكان الوضع مقلق خاصةً ، بأني لا أُجيد اللغة الفرنسية ولا البامبارية ، كنت أتحدث معهم بالقليل من اللغة الانجليزيه مستعين بلغة الإشارة حتى تمكنت بشرح ما كنت أريد و أين أريد الذهاب ، وايضا لا احفظ الطرق في تلك المدينة جيداً ، إلا وأني قد وصلت الى المكان الذي أريده بامان من الله ،
ولله الحمد على السلامه ..
بقلم / عبدالجليل بن أحمد الأنصاري