يروى عن كيسنجر أنه كان يردد.."ليس من مصلحة أمريكا حل الأزمات، بل تعقيدها." وهذه هي القاعدة التي تبنتها القوى الغربية حين تتدخل في النزاعات خارج القارة العجوز. ذلك أن تعقيد الأزمات، وتعطيل حلها يخدم مصالح القوى الغربية التي تستفيد من الأزمات والصراعات التي تختلقها وتغذيها. فقد اتفقت القوى الغربية، بعد الحرب العالمية الثانية على تجنيب القارة الأوربية الصراعات المسلحة. وتطبيقا لهذا الاتفاق تم فرض السلام في يوغسلافيا، وتطويق النزاع في أوكرانيا. أما في آسيا وإفريقيا وآمريكا اللاتينية فإن النزاعات المسلحة تدوم عقودا وتتسع رقعتها بفعل التدخلات الخارجية التي تزيدها تعقيدا، وتعطل المساعي الصادقة لحلها.
لقد كانت الحرب الباردة تفسيرا جاهزا لاستمرار النزاعات وانتشارها، غير أن انهيار المعسكر الشيوعي لم يسهم في حل تلك النزاعات مما يعني أن المستفيد من اشتعالها لا يزال يذكيها. بل إن انهيار المعسكر الشيوعي مكن من إذكاء نزاعات جديدة بذرائع جديدة. فقد استحدثت أزمات جديدة باسم الديمقراطية. واللافت في حروب الديمقراطية هو أن المدنيين هم الذين يذكونها، ويحملون فيها السلاح على أوطانهم رافضين لأي حل سلمي، بينما يقف العسكريون إلى جانب الوطن في وجه الغزو الأجنبي المتواطئ مع سياسيين لا يحركهم سوى حب الاستيلاء على السلطة ولو في بلد مدمر!!! ألم يأت دعاة الديمقراطية من السياسيين المدنيين في العراق على ظهر الدبابة الأمريكية ليحكموا بلدا مدمرا؟ وكان ضباط وجنود الجيش العراقي، الذي حله الاحتلال، هم الذين نظموا المقاومة المسلحة التي أرغمت الأمريكيين على الانسحاب. وفي سوريا لا يزال الجيش العربي السوري صامدا في وجه العصابات المسلحة من المدنيين الطامحين إلى الاستيلاء على السلطة في بلد دمروه متحالفين مع أعدائه التاريخيين في المنطقة وخارجها.
وفي مصر استطاع الجيش إنقاذ البلاد من حرب أهلية نظر لها سياسيون مرتبطون بتنظيمات دولية تسعى إلى استلام السلطة في البلدان الإسلامية مهما كان الثمن... لقد أصبحت الديمقراطية حصان طروادة يحمل الغرب في جوفه مدنيين يدمرون بلدانهم تحقيقا للديمقراطية، ودفاعا عن التداول "السلمي" على السلطة، ووقف الغرب بحزم في وجه مساعي حل النزاعات حول "الديمقراطية" بالطرق السلمية، وكان يدفع باستمرار في اتجاه الحرب الأهلية. فقد أفشل الوساطة الإفريقية في ليبيا لتصل الأمور إلى ما وصلت إليه.
فقد اجتمع الوفد الإفريقي بقيادة الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز بمعمر القذافي، رحمه الله، في طرابلس، ثم ذهب إلى بنغازي بمقترحات تحقن دماء الليبيين، وتمنع التدخل الأجنبي. وكان القذافي رحمه الله مستعدا للتنازل عن السلطة، مع بقائه في بلده، ضمن شروط تحفظ له كرامته، ولليبيا استقلالها ووحدتها. كان الوفد الإفريقي، بقيادة الرئيس الموريتاني يفاوض في فندق تيبستي في بنغازي، واقترب من تحقيق اتفاق. غير أن قادما من وراء البحر، كان في نفس الفندق مكلفا بمهمة واضحة: إفشال الوساطة الإفريقية تمهيدا للتدخل الأجنبي. لقد مارس "الفيلسوف" تحريض الغوغاء ضد الوفد الإفريقي، فحاصر المسلحون الفندق وسط إطلاق نار كثيف، فانفض الاجتماع، ونُصح أعضاء الوفد الإفريقي بمغادرة المكان من الباب الخلفي، حفاظا على سلامتهم. فرفض الرئيس الموريتاني، قائلا.."دخلت من الباب الرئيس، وسأخرج منه." وبإفشال الوساطة الإفريقية أعطي الضوء الأخضر لاجتياح ليبيا وتدميرها. نفس السيناريو، أريد له أن يتكرر في غامبيا. فقد استخدمت الديمقراطية لتدمير غامبيا، وتصفية حسابات شخصية مع رئيسها. وكما في الحالة الليبية استخدمت المنظمات الدولية والإقليمية لتشريع التدخل الأجنبي؛ فقد استخدمت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، كما استخدمت الجامعة العربية، وحشدت الجيوش، ووجهت الإنذارات، وأضفيت الشرعية على رئيس ينصب على عجل في سفارة لم تعد تمثل بلدها.. كل ذلك لعرقلة مساعي الحل السلمي التي يقودها الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز.
وبادر آخرون إلى الزج بثقلهم الدبلوماسي والسياسي بوفد يقوده موظف بوزارة الخارجية، من أجل التشويش على الجهود الموريتانية... غير أن تلك المناورات لم تثن الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز عن مواصلة جهوده التي أثمرت اتفاقا يحمي غامبيا الشقيقة من حرب أهلية حشد لها بعض جيرانها تدفعهم مصالحهم الضيقة وعداواتهم الشخصية. لقد علمتنا الأزمة الليبية والغامبية أن الحروب التي تشن باسم الديمقراطية، والتناوب "السلمي" على السلطة تخفي وراءها أطماعا أجنبية لشركات، أو إثنيات عابرة للحدود، وتصفية حسابات شخصية. وأن دعاة الديمقراطية لا يجدون حرجا في تدمير بلدانهم بأيديهم، وأيدي الأجنبي طمعا في الوصول إلى السلطة. كما علمتنا أن القوى الأجنبية تتخذ لها وكلاء محليين تعتمد عليهم في إنجاز المهام القذرة، لكنها مستعدة للتخلي عنهم في حال إفلاس المشروع كما في الحالة السورية. ونرجو أن تكون الأزمة الغامبية قد بينت للطامحين من دول المنطقة إلى لعب أدوار أكبر من حجمهم أن موريتانيا، ورئيسها سيذكرونهم دائما، عند تعرضهم إلى مصالحنا الوطنية، بحجمهم الطبيعي...
الدكتور اسحاق الكنتي